رفيق خوري
التناقض كامل بين العمل الأمني والعسكري المشغول بدقة والعمل السياسي القاصر والغبي. يوم 11/ 9/ 2001 نفذ تنظيم “القاعدة” بقيادة أسامة بن لادن أكبر عملية إرهابية في العصر الحديث، هي تفجير برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، من دون حساب لمضاعفاتها ومخاطرها على المنطقة والعالم. وفي 11/ 9/ 2021 ستكون القوات الأميركية والأطلسية قد أكملت الانسحاب بقرار من الرئيس جو بايدن من “أطول حرب” في أفغانستان. حرب أمر بها الرئيس جورج بوش الابن ومعه المحافظون الجدد، من دون قراءة في تجارب القوى التي سبقتهم في التاريخ، ودراسة “التضاريس” السياسية القبلية والإتنية في أفغانستان. عشرون سنة أميركية في أفغانستان بدأت بالانتقام من “القاعدة” وإسقاط نظام طالبان الذي قدم الملاذ الآمن للتنظيم الإرهابي، وأحلام نشر الديمقراطية، و”بناء الأمم”، وانتهت بكوابيس. أميركا تغيرت وتراجع دورها في العالم. أفغانستان انتقلت من طالبان إلى طالبان. روسيا بنت علاقات مع قوى أفغانية بعد سنوات من حرب “المجاهدين” ضد الغزو السوفياتي. وإيران استعادت شيئاً من الدور عبر دعمها لإتنية الهزارة الشيعية وحماية “القاعدة” وطالبان.
ولا شيء يمثل الواقع أكثر من حوار في رواية صدرت حديثاً تحت عنوان “الحجر الأول” للدانماركي كارستن جنسن. بعض الحوار قول أمير حرب أفغاني لضابط يقود مجموعة من الجنود الدنماركيين: “عندما تغادرون أفغانستان، فلن يكون ذلك لأنكم أطلقتم النار على آخر عضو في طالبان، بل لأن هناك عشرة أضعاف طالبان مما كانوا عليه يوم جئتم”. وهناك درس أهم لم يتعلمه الإنجليز جيداً أيام اللعبة الكبرى بين بريطانيا وروسيا والقيصرية. ولا السوفيات الذين غزوا البلد وأقاموا نظاماً شيوعياً. ولا الأميركيون الذين سلحوا ومولوا ودربوا “المجاهدين” على محاربة السوفيات وسموهم “مقاتلين من أجل الحرية”. ولا هم بعدما تركوا أفغانستان في أعقاب هزيمة السوفيات ثم عادوا إلى غزوها، وهو ما اختبره ويعرفه الباكستانيون الذين لعبوا أدواراً في كل المراحل. وخلاصته قول الجنرال حميد غول رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية سابقاً التي لعبت مع الأميركيين وعليهم لحماية اهتمامات باكستان الجيوسياسية، “تستطيع أن تستأجر أفغانياً، لكنك لا تستطيع أن تملكه”. والأصعب هو تغيير الوضع مهما يكن نوع التغيير. هذا ما اعترف به الشاعر والوزير اليساري أيام الحكم الشيوعي سليمان لايك في المذكرات التي تركها مخطوطة قبل رحيله، “لا الأيديولوجيا الماركسية، ولا العسكرية الإسلامية، وجدتا حلاً للواقع القبلي الإقطاعي اللا عادل في أفغانستان”.
ذلك أن البشتون يمثلون الإتنية المهيمنة من أيام الملكية. والمعادلة هي، لا يمكن حكم أفغانستان من دون البشتون، ولا يمكن حكمها بالبشتون وحدهم. وما حاولته أميركا بالاعتماد على رئيس ضعيف من البشتون وشخصيات قوية من الطاجيك والأوزبك قاد إلى تقوية طالبان بعد إسقاطهم بالقوة الأميركية. وما تعترف بالحاجة إليه بعد عشرين سنة في أفغانستان و18 سنة في العراق جاء في وثيقة “التوجيه الاستراتيجي الموقت” لإدارة بايدن، وهو، “الولايات المتحدة يجب أن لا تخوض ولن تشارك في حروب أبدية أودت بحياة الآلاف وأهدرت تريليونات الدولارات. وسنعمل على إنهاء أطول حرب أميركية في أفغانستان بشكل مسؤول، مع ضمان أن لا يكون هذا البلد مرة أخرى ملاذاً للهجمات الإرهابية على الولايات المتحدة”. فالرئيس دونالد ترمب أوفد الدبلوماسي الأميركي من أصل أفغاني زالماي خليل زاد للتفاوض مع طالبان، بحيث توصل إلى اتفاق معهم على انسحاب القوات الأميركية في 2021/5/1 وضمان أن لا يعود تنظيم “القاعدة” إلى البلد. والرئيس بايدن الذي يعاكس معظم ما فعله ترمب، جدد الاتفاق عبر خليل زاد مع مد فترة الانسحاب حتى الذكرى العشرين لأحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وأرسل وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى كابول لتطمين الرئيس غاني باستمرار الدعم الأميركي للبلد.
والمفارقة أن الاتفاق مع طالبان على إخراج القاعدة كان ممكناً من دون احتلال وإهدار التريليونات. لكن واشنطن أخذت وقتاً طويلاً لكي تصل إلى ما طالب به البروفسور في هارفارد ستيفن والت، وهو، “عودة إلى الواقعية من استراتيجيات الهيمنة الليبرالية إلى استراتيجية توازن، لا بناء أمم، ولا نشر ديمقراطية”. وليس من السهل الحفاظ على بعض ما تحقق في أفغانستان وترفضه طالبان من انتخابات، وبناء مدارس، وتدريب إداري، وفتح الباب أمام البنات للتعلم والمرأة للعمل.
المصدر: اندبندنت