وجه لبنان بين صورة غادة عون وصورة ألكسندر نجّار
هناك عند مدخل ذلك المبنى الذي يضم مكاتب شركة ميشال مكتّف للصيرفة ونقل الأموال في منطقة عوكر قرب السفارة الأميركية، كانت المواجهة المباشرة بين هذين الوجهين. هناك وقف ألكسندر نجار وكيل الشركة في مواجهة القاضية الممتشقة سيف السلطة التي يوليها إياها موقعها، ولكن ليس لتتصرف بها بهذه الطريقة التي تجعل العدالة التي تمثّلها مثخنةً بالجراح، مشوّهة ذليلة لا تقوى على أن تظهر وجهها أمام الناس.
من أين أتت عون؟
أتت القاضية السيّدة غادة عون، كما سمّاها بيان مجلس القضاء الأعلى أمس الأول، إلى شركة مكتّف من ماضٍ قضائي تشوبه علامات الإلتباس. فجأة صارت ممثلة النيابة العامة الإستئنافية في جبل لبنان هناك في قصر عدل بعبدا، حيث يطلّ من السراي على قصر بعبدا الجمهوري الذي يسكنه رئيس الجمهورية ميشال عون. هي من الدامور وهو من المكنونية في جزين قبل أن تنتقل العائلة إلى حارة حريك في الضاحية الجنوبية، من دون معرفة أين يكون بستان جدّ الرئيس الذي تحدّث عنه وتمنّى لو أنّه ورثه ولم يعمل رئيساً للجمهورية.
منذ تولّت السيدة القاضية هذا المنصب بدأت تظهر علامات تتحدّث عن أنّها هناك من أجل أن تكون قبضة العهد الحديدية في القضاء، وأن تنفّذ رغبات رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل. ربّما اعتبر كثيرون وقتها أنّها مجرد إشاعات للإنتقاص من دورها والتشكيك بما ستقوم به، على رغم أن إشارات قليلة تحدّثت عن أنّها قاضية ممتازة وموضوعية وعادلة في المراكز التي تولّتها قبل وصولها إلى بعبدا.
أتت الرئيسة عون إلى عوكر أيضاً وفي تاريخها أنّ رئيس الجمهورية منع التشكيلات القضائية التي أنجزها مجلس القضاء الأعلى ولم يوقّع عليها، على رغم أن وزيرة العدل ماري كلود نجم وقّعتها من دون أن تتنازل عن ملاحظاتها التي أبلغتها إلى المجلس المذكور. ولكنّها بالنتيجة وقّعت ولم يمشِ مرسوم التشكيلات. يقال إن الرئيس الذي أصيب بخيبة أمل نتيجة موافقته على أن يكون القاضي سهيل عبود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، رفض الموافقة على التشكيلات لأنها ستنقل غادة عون من بعبدا إلى مركز آخر وبالتالي سيفقد التأثير المباشر في عدلية بعبدا. ويقال اليوم إنّه نادم على قبوله تعيين القاضي سهيل عبّود رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، على رغم أنّه غير محسوب عليه سياسياً على عكس غادة عون.
أتت عون أيضاً إلى عدلية بعبدا من خلفية بدأت تتظهّر مؤخّراً بعد موقعة عوكر في شركة مكتف، وتتعلّق بسيرتها الإيمانية المسيحية وزياراتها إلى مديغوريه للصلاة والسجود أمام قدسية مريم العذراء وتردّدها الدائم إلى الكنائس في لبنان، وذلك للقول إنّها لا يمكن أن تكون مؤمنة إلى هذه الدرجة وأن تكون مفترية في العدالة.
ولكن منذ وصولها إلى منصبها في بعبدا بدأت تتكوّن حولها صورة القاضية المشاكسة التي تتمرّد على السلطة القضائية الأعلى وتعتبر أنها “هي” سلطة قضائية قائمة بذاتها، حتى انفجرت هذه الظاهرة بعمليات تكرار اقتحام شركة مكتّف.
من أين أتى نجار؟
هناك في هذه الشركة كان يقف منتظراً المحامي ألكسندر نجّار مع صاحب الشركة ميشال مكتّف. أراد المحامــــي أن يعتـــرض على تجــاوزات القاضيــــة بالقانون، ولكن القاضية لم تكن محترمة للقانون بقدر ما كان يأمل المحامي. حجّة المحامي لم تقف في وجه سلطة القاضي. ولكن صورة المحامي جاءت مناقضة تماماً لصورة القاضي. لقد ظهر مباشرة أنّهما ليسا وجهين لعدالة واحدة. كان نجّار متسلّحاً بحمل كبير من الشهادات والكتب والمسار القانوني، وكانت عون متسلحة بمواكبة أمنية كسرت وخلعت واشرأبّت، وبمرافقة شخصية من الجهة التي ادعت على شركة مكتف ممثلة بمحام آخر هو رامي عليق الذي تثار حول سيرته علامات استفهام كثيرة، حتى من “حزب الله”، بعدما ادعى مرّة أنه خرج عليه وكتب عن تجربته معه في كتابه “طريق النحل” وفي كتاب آخر “تحت المياه الخضراء”. تجربة عليق لا تشبه أيضاً تجربة نجّار.
يأتي نجّار من عائلة مؤمنة ومن ماضٍ يشبهه وحلمٍ بمستقبل جميل في وطن يشبه هذا الحلم. وطن تسوده العدالة وروح القانون والديمقراطية وحقوق الإنسان.
في 14 كانون الثاني الماضي منحته الأكاديمية الفرنسية الجائزة الكبرى للفرنكوفونية لعام 2020. وجاءت هذه الجائزة لـتتوّج أعمال هذا الكاتب الفرنكوفوني الذي ساهم على نحو بارز في بلده، كما على المستوى الدولي في الحفاظ على اللغة الفرنسية وتجسيدها.
ألّف نجّار، المولود في بيروت عام 1967 أكثر من ثلاثين رواية وقصة وقصيدة وسيرة تميّزت بتأثّرها بثقافة ونبض وطنه لبنان، كان آخرها رواية “التاج اللعين” عن دار “بلون”، وهي أول رواية تكتب عن جائحة كورونا من خلال سرد للمعاناة في ثمانية بلدان حول العالم، وفيلم “زمن كورونا” الذي يتناول ارتدادات الجائحة على المجتمع اللبناني.
نجّار حاز في تشرين الأول 2020 الميدالية الذهبية للنهضة الفرنسية عن مجموع أعماله، وأهداها الى بيروت. مؤلفاته تعكس تاريخ لبنان وهويّته وسرديّاته المحلية، أمثال “رواية بيروت”، “فينيسيا”، “برلين 36″، “قاديشا”، “قاموس الحب اللبناني”، و”ميموزا” وهي سيــرة ذاتيــة لتكريــم ذكرى والدته. كل هذا الكمّ من القيم المتراكمة في سيرة ألكسندر نجار سقط تحت قدمي القاضية غادة عون. ماذا يفعل نجّار تجاه هذا الإنتهاك؟ هل يعطي عون درساً في القانون الذي تخصّص به في باريس؟ هل يرفع في وجهها الجوائز التي حازها أو الكتب التي ألّفها أو الألقاب التي حصل عليها من الأكاديميات الدولية؟ في مواجهة التعسّف ماذا تفعل هذه الإنجازات؟
سلّملي على القانون
تحدّت عون قرارات النيابة العامة التمييزية وتوجيهات وقرارات مجلس القضاء الأعلى وأرادت أن تطبق القانون كما تفهمه وكما تريده. وبعدما التقت وزيرة العدل مجلس القضاء الأعلى للنظر في قضية غادة عون ومحاسبتها لوضع حد لتصرفاتها المسيئة للقضاء، عادت عون إلى شركة مكتف وكأنّها لا تقيم وزناً لا للوزيرة ولا لمجلس القضاء الأعلى ولا للنائب العام. وبعدما حضرت إجتماع مجلس القضاء الأعلى الذي ينظر في قضيتها، وبعد البيان الذي أصدره وأكد فيه على محاسبتها وإحالتها إلى التفتيش القضائي طالباً منها الإمتثال لقراراته، خرجت من الإجتماع وتوجّهت إلى شركة مكتف.
وفي اليوم التالي، عادت إلى الشركة. في كل يوم تنتصر غادة عون على ما فعلته في اليوم السابق. لها منطقها الخاص في العدالة وتطبيق القانون. ما صدر عن مجلس القضاء الأعلى مثلاً كان بياناً وليس قراراً ولذلك يمكنها أن تكسر وتخلع الحديد أمام الكاميرات ومباشرة على الهواء. ليت هذا الإهتمام بالكسر والخلع كان أكبر عندما كان يتمّ تلحيم بوابة العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت.
تذهب غادة عون إلى عوكر بحثاً عن مليارات الدولارات لتصنع حدثاً قضائياً وهزة كبيرة أو زلزالاً. ولكن في الواقع ما فعلته وتفعله زلزل العدالة وهزّ القضاء ولم يبعث العهد من بين الركام، وقد يستحق أن يكتب عنه ألكسندر نجار رواية.