القطار انطلق، لكن…
متعددة هي المؤشرات حول حصول تقدم جدّي بين الولايات المتحدة الاميركية وايران. الاجتماع في فيينا هو المؤشر الأوضح والابرز، ولو أنّ الوفدين الاميركي والايراني كانا في المبنى نفسه من دون ان يلتقيا في الغرفة نفسها.
هي لعبة المحافظة على الصورة التي تهتم لها الشعوب في الشرق الاوسط بخلاف شعوب الدول الغربية التي تريد دائماً أكل العنب وتحاسب على اساسها. في فيينا صدرت المواقف الايحابية ولو بنسبة محددة. وفي كل الحالات من كان لينتظر اكثر من ذلك في الجلسة الاولى؟
وثمة مسار تتوقعه الاوساط الاوروبية ان لا يطول اكثر من شهرين، اي قبل موعد الانتخابات الرئاسية الايرانية. وخلال هذه الاسابيع سيظهر حتماً كثير من المشكلات، وسيرتفع منسوب التشنج إعلامياً، لكن لعبة التفاوض تفرض هذا السلوك قبل بلوغ الميل الأخير، والذي على الأرجح سيكون الأكثر تعقيداً وصعوبة وتشنجاً. هي لعبة المفاوضات التي تستنزف في العادة كل انواع البراعة في المناورة وحتى في فنون المراوغة. لكن النتيجة معروفة وهي إعادة وضع قطار الاتفاق على سكة التطبيق. لكن الصورة الحقيقية موجودة في مكان آخر، وعلى الأرجح في سلطنة عمان التي نجحت في كسب دور الوسيط المضمون والموثوق بين الاميركيين والايرانيين خلال مرحلة الاعداد للاتفاق الاول، ومن المنطقي ان تكون راعية التواصل الصعب والحذر في المرحلة الحالية، او مرحلة العودة الى التفاهمات. ومن الصعب جداً ان لم يكن من المستحيل معرفة ما يمكن ان يحصل في السلطنة الكتومة. لكن ثمة مؤشرات بليغة يمكن التعويل عليها لقراءة الخطوط المبهمة. فاجتماعات فيينا ما كانت لتنعقد لو لم تسبقها تفاهمات ولو بالخطوط العريضة عبر كواليس التخاطب السرية. فالصوت الذي صدر من فيينا جاء نتيجة فعل تحقق في سلطنة عمان. وليست النمسا هي المؤشر الوحيد الذي يمكن البناء عليه، ففي ساحات الشرق الاوسط التي تعقدت فيها الامور واشتعلت طوال الاسابيع الماضية ربما لمواكبة المفاوضات السرية الدائرة في الكواليس، تبدلت الاحوال فجأة.
فالمعارك العنيفة التي دارت في مأرب، المنطقة الشديدة الحساسية بالنسبة الى السعودية، تراجعت حدّتها فجأة. كان الحوثيون قد باشروا معركتهم للسيطرة على هذه المنطقة الاستراتيجية. من الواضح ان ايران كانت تريد تثبيت معادلة ميدانية لاستثمارها في المفاوضات السرية الدائرة. والأكثر غرابة كان القرار الاميركي الذي سبق وقضى بإنهاء الدعم العسكري للتحالف السعودي في اليمن. وكانت القوات الحوثية تتقدم مع أرجحية عسكرية لمصلحتها. لكن المعارك هدأت فجأة. وفي العراق ثمة انفراجات ولغة جديدة ووعود استثمارات إماراتية وسعودية بمليارات الدولارات. العراق هو في الواقع الحديقة الخلفية لإيران وخاصرتها الرخوة والمتنفس الاستراتيجي لها.
لكن الاهم ذلك الموقف الذي أطلقه المبعوث الاميركي الى ايران روبرت مالي، والذي اقلق اسرائيل كثيراً. مالي قال بوضوح ان الهدف من المحادثات في فيينا هو العودة الى الاتفاق النووي من دون الدعوة الى تعديله او اضافة اتفاقيات جانبية.
ولم يذكّر مالي في هذه المقابلة التي أجراها مع قناة PBS الاميركية بالهدف القاضي بمنع ايران من الحصول على اسلحة نووية او حتى اهمية التشاور مع حلفاء واشنطن في الشرق الاوسط. لذلك لم تتأخر اسرائيل في إرسال اشارتها الاعتراضية. فبالتزامن مع افتتاح مفاوضات فيينا، استهدفت اسرائيل سفينة ايرانية من دون ان تبلغ ادارة بايدن بالعملية مسبقاً، لا بل انها عملت بعد حصول عمليتها على الابلاغ الى واشنطن أنها نفّذت هجومها لأسباب تتعلق بالامن القومي الاسرائيلي وان ليس لعمليتها علاقة بأي شيء آخر. فلقد بررت اسرائيل أنّ السفينة الايرانية التي هاجمتها بعد عبورها قناة السويس إنما هي فعلاً سفينة تجسّس تابعة للحرس الثوري الايراني، وتعمل لجمع المعلومات عن اسرائيل.
في الواقع يملك الجيش الاميركي معلومات مشابهة عن السفينة المموّهة، لكنه يدرك ايضا أنه لم يكن هنالك خطر داهم يدفع بالجيش الاسرائيلي الى تنفيذ هجومه الآن. والواضح انّ في التوقيت رسالة اعتراض مشاغبة على التقدم الذي حصل بين واشنطن وطهران والذي وضع جانباً، أقلّه في المرحلة الحالية، ملف الصواريخ البالستية. وفي العادة فإنه من النادر جداً أن تتبنّى اسرائيل او تنفي مسؤوليتها عن ضربات ضد اهداف ايرانية، واعلان تبنّيها مسؤوليتها عن العملية هو رسالة واضحة موجهة الى واشنطن بلا ادنى شك.
لذلك قرر الرئيس الاميركي جو بايدن إرسال وزير الدفاع لويد اوستن الى اسرائيل يوم الاحد المقبل، في اول زيارة لمسؤول في ادارته الى تل ابيب. فالادارة الاميركية تريد احتواء الغضب الاسرائيلي من خلال منح اسرائيل الضمانات التي تحتاجها، بهدف حماية المفاوضات ومنع التشويش عليها. وسيتولى اوستن وضع المسؤولين الاسرائيليين في خلفية الموقف الاميركي حول ما تحقق حتى الآن، وتأكيده التزام الادارة الاميركية بأمن اسرائيل والحفاظ على التفوق النوعي للجيش الاسرائيلي في المنطقة، اضافة الى الضمانات العسكرية المطلوبة. ويبدو ايضاً ان وزير الدفاع الاميركي سيتطرق بشيء من التفصيل الى الوضع في سوريا ولبنان.
ففي سوريا، وتحديداً في المنطقة الشمالية ـ الشرقية، كانت الولايات المتحدة الاميركية قد نفذت غارات ضد موقع عسكري تابع للايرانيين، وقيل انه تم تدمير منشآت مهمة كانت تستخدمها ايران. وقيل ايضا انّ الجيش الاميركي عمل على منع ايران من بسط نفوذها على منطقة نفطية في دير الزور.
وفي الوقت نفسه تم تداول معلومات تتحدث عن زيارة سرية قام بها وفد امني لإحدى الدول الاوروبية الحليفة للولايات المتحدة الى دمشق عبر المطار.
صحيح انّ مضمون الزيارة بقي سرياً، الا انّ ذهاب الوفد في هذا التوقيت بالذات وعبر مطار دمشق بعد ان كان يحصل سابقا عبر لبنان، إنما له دلالاته البليغة. يبقى رصد التبدل البطيء الذي بدأ يظهر عبر الساحة اللبنانية، وتحديداً حول ما بات يعرف بالازمة الحكومية. خلال اطلالته الاخيرة تحدث الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله بابتسامة واضحة عن ظروف ومعطيات جديدة يمكن البناء عليها لإنجاز تشكيل الحكومة. في الواقع إنّ تاريخ السيد نصرالله يثبت أنه ليس من هواة إطلاق الكلام في الهواء. الواضح انه كان يستند الى مناخ عام اكثر منه الى افكار المبادرات المتتالية المطروحة. وبعدها، تقدمت باريس مباشرة على خط تأمين الولادة الحكومية بعدما زارها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم.
من المنطقي الاستنتاج أنّ العاصمة الفرنسية التي تشارك في مجموعة الدول التي تفاوض ايران في فيينا، لمست التحسن الذي طرأ على الملف النووي، واستنتجت أن الظروف باتت اكثر ملاءمة لتذليل العقبات الداخلية. لكن كما ان تراجع حدة المعارك في مأرب لا يعني قرب التوصل الى وقف كامل لإطلاق النار، فإنّ تراجع المواقف المتشنجة او حتى الاعلان الايجابي للأمين العام لـ»حزب الله» لا يعني أن الازمة الحكومية حان وقت حلها. المرونة شيء والحلول شيء آخر، ربما الجديد هو أن الحل الحكومي لم يعد بعيداً وبات يمكن مشاهدته من بعيد اذا استمر المسار الاقليمي ايجابياً. ما يعني انطلاق القطار الذي سيأخذ وقته قبل ان يصل الى المحطة المتوخّاة.