عندما تستقبل موسكو الحريري
لا تُفهَم محاولات التقليل من شأن زيارات الرئيس سعد الحريري الخارجية إلا من باب الحرتقة المسكينة المُعتادة في السياسات القروية. قبله بسنوات، واجه والده الرئيس رفيق الحريري محاولاتٍ مُشابهة. كان كلّما زار دولة وأُستقبل فيها استقبال كبار العصر، ينتظر من سيشنّ عليه في الداخل حملةً مدفوعة لمصلحة سيّد البلاد المقيم في دمشق وتابعه في عنجر.
تبدّلت الأزمنة. سعد الحريري حتى الآن يتمتّع بصفة التكليف، ولم تكتمل مهمّته بعد في تشكيل حكومةٍ ناجزة، ومع ذلك يحظى في بلدان الأجانب والعرب باهتمام ودعمٍ وثقة، لم يحظ بمثلها أي رئيس حكومة لبناني في السابق، ولا أي رئيس من الرؤساء الذين يعتقدون انهم من جماعة مالئي الدنيا وشاغلي ناسها.
وإذا كان مفهوماً أن يولي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إهتماماً مميّزاً بالحريري، وأن يجد الرئيس المكلّف أصدقاء طبيعيين في مصر والإمارات وبلدان الخليج، فإن الاهتمام الروسي به جدير بالانتباه. ففي الوقت الذي توجّه به الرئيس ميشال عون إلى الحريري بوصفه الرئيس السابق للحكومة، كان رئيس الحكومة الروسية يوجه دعوة “لنظيره اللبناني” للقيام بزيارة رسمية إلى موسكو عاصمة “الشرق” الذي يجهد أقطاب السلطة اللبنانية الفاشلة في التنظير والترويج له. وبالفعل، تعاملت موسكو مع الحريري كما لم تتعامل مع حلفائها المنخرطين في ما يسمّى “مِحور الممانعة”.
في هذا المجال يجدر التذكير بكيفية تعاطيها مع الرئيس بشار الأسد في حادثتين مهمّتين: الأولى في حميميم (كانون الأول 2017) عندما منع الضبّاط الروس الأسد من السير إلى جانب الرئيس فلاديمير بوتين… والثانية في مقر القيادة الروسية في دمشق (كانون الثاني 2020) عندما أُدخل الأسد إلى قاعة مليئة بصور بوتين ووزير دفاعه سيرغي شويغو ليستمع إلى كلمة الرئيس الروسي فيما كان الروس يبحثون عن كرسي صغير لوزير الدفاع السوري في قاعة خلت من أي صورة للرئيس القائد ومن أي علمٍ سوري.
ولا يغيب عن البال كيف تعامل بوتين مع رئيس البرلمان الإيراني محمد باقر قاليباف الذي زار موسكو حاملاً رسالة خطية من خامنئي إلى الرئيس الروسي. لم يستقبل بوتين قاليباف ولم يتّصل به، وتولّى رئيس مجلس النواب الروسي فياتشسلاف ڤولودين تسلّم الرسالة، ما أثار عاصفة تعليقات في الصحف الايرانية.
لبنانياً، كانت زيارة الوفد الرفيع من “حزب الله” الأخيرة من نوعها إلى موسكو، ورغم الحديث عن جدول أعمالها الإقليمي والدولي الحافل، لم يبق في الذاكرة منها سوى مشهد الباص الذي يُقِلّ الوفد إلى مقرّ الخارجية الروسية…
لا تندرج محطة الحريري الروسية في هذا السياق، وهذا أمر يجدر بالخصوم والحلفاء أن يتنبّهوا إليه. فالرجل إستُقبل في موسكو كرئيس للحكومة، وخصّه بوتين بإتصال مطول إلى جانب مباحثاته مع رئيس الحكومة ووزير الخارجية. وفي تلك المباحثات لم يكن ينقص الحريري سوى الختم المحجوز في لبنان، ومعه تحتجز آمال اللبنانيين بمحاولةٍ، مهما كانت، للخروج من جهنّم التي ولجوها مُكرهين.
لقد آن الأوان لرؤية المعنى والمغزى في علاقة العالم مع لبنان وسياسييه، والمفتاح لتغيير الصورة لا يزال، مع الأسف، في يد حفنة تحالف الميليشيا والفساد، بحساباتهم الضيقة الخاصة.