“ميني حرب لبنانية”.. أين جعجع والجيش وحزب الله؟
الكاتب : حسين أيوب
لا يُحسد نجيب ميقاتي على هذه اللحظة السياسية والأمنية في لبنان. قبله، قيل لا يُحسد حسان دياب على لحظة إنفجار مرفأ بيروت، ذروة الإنهيار اللبناني. الفارق بين الإثنين أن حكومة دياب حكمت لبنان لأشهر عديدة وكأنها لم تحكم، بينما جرت “أسطرة” اللحظة الميقاتية، ليتبين أن لبنان هو بلد المفاجآت والمفارقات الدائمة والصادمة. منذ الثالث عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1990، تاريخ سقوط الجنرال ميشال عون في بعبدا ولجوئه إلى السفارة الفرنسية في مار تقلا، قيل للبنانيين أهلاً وسهلاً بكم في مرحلة السلم الأهلي. سِلمٌ لم يسلم من إهتزازات كثيرة من مجزرة جسر المطار (1993) إلى “مجزرة الطيونة” اليوم، مروراً بأحداث الضنية (2000) وفتح الإسلام (مخيم نهر البارد) (2007) والسابع من أيار/مايو (2008) وطرابلس (2020)، وما تخلل هذه السنوات من إغتيالات سياسية، أبرزها إغتيال رفيق الحريري. ما جرى اليوم عند مستديرة الطيونة هو حرب أهلية مصغرة. تشي بذلك الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ. نقطة مفصلية بين ثلاث حساسيات لبنانية سنية وشيعية ومسيحية، ولكل من هذه الحساسيات حيثيتها وحساباتها. تتقاطع حيناً وتتناقض حيناً آخر. تماس الطيونة والمتحف مع خط قصقص ـ الطريق الجديدة. تماس قصقص مع الشياح. تماس الشياح ـ عين الرمانة. منطقة نموذجية بالجغرافيا والطوائف والذاكرة للإختبارات “الوطنية”.
منذ ليل الأربعاء ـ الخميس الماضي، كان جلياً أن ما يحصل في المنطقة المحيطة بالطيونة وقصر العدل لا ينبىء بخير صباحي. سمعت أحدهم في آخر الليل يقول الآتي: الأمتار الفاصلة بين الطيونة وقصر العدل “قد تكون مشروع بوسطة عين رمانة جديدة”. المُعلن في السياسة هو الآتي: أمل وحزب الله وتيار المردة يريدون الإحتجاج في الشارع أمام قصر العدل على أداء المحقق العدلي في قضية جريمة تفجير مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار بعنوان “ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء”. كان يمكن للمحتجين على أداء أحد القضاة أن يكتفوا بنزهة خريفية صباحية أمام قصر العدل، لكن قبل مائتي متر من المبنى في منطقة المتحف حصل ما حصل من قنص وإطلاق نار (حسب الرواية الرسمية لوزارتي الداخلية والدفاع)، أدى إلى سقوط ستة قتلى وعشرات الجرحى، بينهم العديد من الإصابات الخطيرة، فمن يتحمل المسؤولية؟ لا مسؤولية تتقدم على مسؤولية الجيش اللبناني. رُبّ قائلٍ حرام الجيش ولا يجوز تحميله ما لا يحتمل. حقيقة الأمر أن الجيش ما زال عنصر إجماع داخلي وخارجي ولا يجوز أن يُبدّد هذا الإجماع. لذلك، كان ينبغي على المؤسسة العسكرية أمام إحتمال مظاهرة.. و”طابور خامس” أن تتخذ ما ينبغي إتخاذه من إجراءات. جرت مراجعات بين “الثنائي الشيعي” والجيش بهاجس عدم تكرار “كمين خلدة”. أعطى الجيش ما يلزم من تطمينات، لكن الأمر كان يحتاج إلى تدقيق. ففي آخر الليل الماضي، كانت البرقيات تتالى حول إنتشار أمني إستثنائي بألبسة مدنية وأسلحة مخفية تقوم به القوات اللبنانية في مناطق الأشرفية وبدارو وفرن الشباك وعين الرمانة والسوديكو. إنتشار إكتمل صباحاً. بدا أن سمير جعجع يريد تطييف قضية مرفأ بيروت مسيحياً ولكن بالميدان في موازاة السياسة، مثلما نجح ثنائي حزب الله وحركة أمل وحتى تيار المستقبل بتطييفها سياسياً بإنضمام المجلس الشيعي الأعلى ودار الفتوى إلى دائرة تحصين “المتهمين”. منذ العشاء الشهير الذي جمع جعجع ووليد جنبلاط في دارة نعمة طعمة في تشرين الأول/أكتوبر 2020، بدا واضحاً أن رئيس القوات اللبنانية بات مستعداً للمقامرة بالسلم الأهلي. بدا الرجل متيقناً أنه أقوى من بشير الجميل في عز السبعينيات الماضية وأن حزب الله أضعف من منظمة التحرير الفلسطينية في ذروة قوتها في مطلع الثمانينات الماضية. لنراقب المشهد الممتد من تصدي القوات للناخبين السوريين المتوجهين بمواكبهم من الشمال إلى السفارة السورية في اليرزة. لو أراد بشار الأسد تفجير لبنان في الربيع الماضي، لكان سمير جعجع أعطاه الذريعة و”حبة مسك”. يكفي أن تكون سيارة سورية محملة بالسلاح حتى يصبح ممكناً أن يحدث ما لا يمكن إحتسابه.
لو كان حنا غريب جزءاً من مشروع سياسي يريد تفجير لبنان، لكان قد سلح متظاهري حزبه الشيوعي في شوارع الجميزة ومار مخايل في آب/أغسطس الماضي، وحصل ما حصل معهم من تنكيل على أيدي القوات اللبنانية. هذه المرة يريد جعجع القول للمسيحيين أنه حاميهم من عند حدود ضيعة طارق بيطار في عكار إلى كفرشيما. من معراب إلى آخر دارة جورج عدوان في أقاصي الشوف. المطلوب تمظهر جديد للصراع في لبنان. طوائف كبرى أقليات صغرى. إستدراج الغرب إلى منطق الحماية بعناوين ومسميات مختلفة. للأسف، لم يتعظ سمير جعجع من كل عبر الماضي. يريد أن يعيد المسيحيين إلى منطق “الغيتوات”. إلى ذاكرة الحرب والسلاح والتهجير والفرز الطائفي والمذهبي. كل ذلك لماذا؟ طمعاً بزيادة أصوات نيابية إنتخابية أو الفوز برئاسة جمهورية مستحيلة.. هل “الميني حرب أهلية” دليل أن القوات اللبنانية مرتاحة ومطمئنة إنتخابياً أم العكس صحيح، وهو ما يعرفه جعجع بالأرقام تفصيلياً. إذا إعتبرنا أن الخارج لا يريد تفجير لبنان وتحديداً الولايات المتحدة التي تزامنت “حرب الطيونة” مع تنقل مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند في شوارع وساحات بيروت.. لعل أجمل خبر يسمعه أهل “البلاط الكبير” في الخليج هناك: لبنان يحترق من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه..
ويكون الجواب “دعونا نتفرج”!
المؤسف أن الجيش اللبناني يمارس سياسة إمساك العصا من الوسط، لحسابات سياسية بحتة وبالتالي لا يريد أن “تحمر” عيناه لا على القوات ولا على أي طرف لبناني من دون إستثناء. هذا مسار يؤدي إلى تعطيل الجيش ودوره. لا يعفي ذلك الآخرين من المساءلة وتحديداً حزب الله. لماذا؟ لقد شاهدنا في الساعات الأخيرة لعبة الأواني المستطرقة بأسوأ تجلياتها. كان يمكن للثنائي الشيعي وتيار المردة أن يختارا طريقا ثانيا للوصول إلى قصر العدل (المتحف مثلا).
كان يمكن أن تُلغى المسيرة من أصلها. لكن التحشيد الطائفي سياسياً ضد التحقيق العدلي تقاطع مع التحشيد الطائفي الميداني قواتياً فأنتج مشهدية إستفاد منها الجميع. “ها هو مسار طارق البيطار يُهدد السلم الأهلي فعلا وليس قولا.. تريدون حماية البلد عليكم إزاحته اليوم قبل الغد”، يقول حزب الله. صار الرجل هو وتحقيقه “في ذيل القضية” ولن يجرؤ لا اليوم ولا غداً على إصدار مذكرة توقيف جديدة. أيضاً نحن أمام تحشيد طائفي لا يتضرر منه إلا كل إنسان غير طائفي.. وهذه الفئة هي الأقل حضوراً في لبنان. لقد نجح سمير جعجع في إعطاء “الثنائي” مظلومية جديدة. مظلومية حاضرة موصولة بمظلومية تاريخية تشد عصب جمهور سيتصرف بصفته ولي دم ستة شهداء سقطوا برصاص جعجع شخصياً. هذه المرة الأولى التي ينبري فيها نبيه بري (قيادة حركة أمل) إلى إتهام سمير جعجع بالدم، منذ إنتهاء الحرب الأهلية. هذه هي الترجمة المثالية لخطاب سمير جعجع (في يوم الشهيد القواتي) الهادف إلى تثوير الشيعة اللبنانيين ضد حزب الله. ماذا بعد؟ لا مصلحة لأي جهة، داخلية أو خارجية بفرط حكومة نجيب ميقاتي. بالعكس، مجريات تأليفها وما حصل في الساعات الأخيرة سيجعل الجميع متمسكاً بها، برغم أن زخمها السياسي إنتهى داخلياً وخارجياً وأثرها المالي صار أثراً بعد عين على مسافة شهر من ولادتها، بدليل أن الدولار تجاوز العشرين ألف ليرة في الساعات الأخيرة. أيضاً لا مصلحة لأحد (بإستثناء جعجع) بإستمرار التوتير السياسي والأمني. لن يتكرر مشهد الميني حرب أهلية، لكن لبنان لن يكون بخير من الآن وحتى الإنتخابات النيابية التي صار مشكوكاً بمواعيدها وبأصل إجرائها. هناك من يريد تعميد المسار الإنتخابي بالدم، وهذا يعني أننا سنكون على موعد مع قلاقل أمنية متكررة في غير منطقة لبنانية. سيكون جبران باسيل أكبر المحرجين سياسياً وإنتخابياً.
صحيح أنه يتفهم ظروف حليفه حزب الله ولكنه يخشى قضما قواتيا من صحنه الإنتخابي بعدما جرى تحويل قضية المرفأ إلى عنوان مظلومية مسيحية مقابل “ظالم مسلم” (سني وشيعي)، زدْ على ذلك ما يسمى المجتمع المدني المتحفز بميزانياته وقوة الدفع الخارجية وحالة اليأس في الشارع لمنافسته، وأيضاً خروج رموز العديد من البيوتات السياسية من جحورها بعد سبات عميق لأجل إثبات حضورها في المشهد السياسي المقبل. إذا كان سؤال الحكومة ليس موجوداً وإذا كان سؤال الإنتخابات النيابية مشرعاً على إحتمالات عديدة، وإذا كان سؤال المحقق العدلي صار من الماضي، فإن سؤال قدرة الحكومة على سلوك مسار التعافي الإقتصادي والمالي دونه أسئلة كثيرة أبرزها من سيدفع الخسائر إذا تم تثبيت أرقامها.. للبحث صلة.