الأردن: “إنقلاب أميري”.. أم “إنقلاب ملكي”؟
وسام متى- موقع post 180
بفارق ثلاث سنوات ونيّف على موقعة “الريتز” السعودية، يشهد الوطن العربي اليوم موسماً جديداً من مسلسل “لعبة العروش”، الذي انطلق بأولى حلقاته في الأردن يوم أمس، وبشكل مفاجئ، حين تم الكشف عن حركة “انقلابية” غامضة، وُضع بسببها ولي العهد السابق الامير حمزة بن الحسين قيد الاقامة الجبرية، وتوقيف مسؤولين آخرين، على رأسهم باسم عوض الله، الرئيس السابق للديوان الملكي، والمعروف بقربه من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
ثمة فارقاً بين “لعبة العروش” في السعودية وبينها في الأردن. اختبرت مملكة آل سعود نمط المعارضة ضمن العائلة الواحدة بشكل مبكر، حيث برزت أدوار لأمراء معينين سرعان ما تم احتواؤهم إما بالعزل الطوعي أو القمعي، ناهيك عن أن قواعد اللعبة ظلت ممسوكة ممن هم على كرسي العرش. وأما المملكة الهاشمية، فالأمر فيها مختلف تماماً، اذ لم يسبق أن شهد العرش الملكي معارضة علنية من داخل العائلة الحاكمة، فضلاً عن أن للأردن خصوصية ربما تجعل هذا الشكل من المعارضة محفوفاً بمخاطر عالية، تتقاطع عندها تناقضات مناطقية وعشائرية، من دون إهمال الطابعين السياسي والاقتصادي الذي جعل عرش الملك عبدالله من بين الأنظمة التي تهددها “الربيع العربي” قبل عقد من الزمن، ليخرج منه بأقل الأضرار الممكنة.
بهذا المعنى، فإن أهمية الحدث الأردني تكمن في أنه جاء ليكشف رأس جبل الجليد الذي حرص العرش وحاشيته السياسية والعسكرية والأمنية في ابقائه مغموراً لسنوات، حتى أن أية تفاصيل بشأنه لم يسبق أن تم تسريبها حتى من الصالونات السياسية في الداخل والخارج، لا بل أن رواية “الحركة الانقلابية” التي تم الترويج لها بالأمس ما زالت تفتقد الى الكثير من العناصر الخفية التي من شأنها، إن تجمعت، أن تجعل الصورة أكثر وضوحاً.
ومع ذلك، فإن ثمة عناصر ظاهرة يمكن تتبع رأس خيوطها المتداخلة لفهم ما يجري، واستشراف ما يمكن أن يحدث، ولو بشكل أولي، خصوصاً اذا ما تمت اعادة ترتيب العوامل الداخلية والخارجية ضمن سياق محدد، يتمثل في تفكيك كم هائل من الأحداث والمواقف، بعضها يتصف بالطابع الآني، والبعض الآخر يعود في الماضي القريب.
سيناريو انقلابي ملتبس
ماذا جرى يوم أمس؟
كل شيء كان هادئاً في الأردن خلال فترة الحجز الصحي، إلى أن أوردت وكالة الأنباء الرسمية (“بترا”) عند الساعة السابعة والدقيقة الخمسين (بالتوقيت المحلي) خبراً مقتضباً، نقلاً عن مصدر أمني، يفيد بـ”إعتقال المواطنين الأردنيين الشريف حسن بن زيد وباسم إبراهيم عوض الله وآخرين لأسبابٍ أمنيّة”، وبأن “التحقيق في الموضوع جارٍ”.
في وقت لاحق، تم تداول اسم حمزة بن الحسين في قضية التوقيفات، وذلك من خلال تقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست”، نقلت فيه عن “مسؤول استخباراتي مطلع” أن السلطات الأردنية اعتقلت ولي العهد السابق الأمير حمزة بن الحسين و20 آخرين بتهمة “تهديد استقرار البلاد”.
وأوضحت الصحيفة، نقلاً عن مسؤول استخباراتي مطلع، أن الأمير حمزة بن حسين وُضع تحت الإقامة الجبرية في قصره في عمان، بينما يستمر التحقيق في “مؤامرة مزعومة للإطاحة بأخيه الأكبر غير الشقيق الملك عبد الله الثاني”.
ووفقا للصحيفة، فإن قرار الاعتقال جاء بعد اكتشاف “مؤامرة معقدة وبعيدة المدى ضمت أحد أفراد العائلة المالكة وزعماء قبائل ومسؤولين بأجهزة أمنية”، فيما نقلت عن مستشار في القصر الملكي أن الاعتقالات تمت على خلفية “تهديد استقرار البلاد”.
الحديث عن سيناريو انقلابي بدا غريباً بعض الشيء، بالنظر الى أن العناصر التقليدية للانقلابات كانت غائبة – أقله ظاهرياً عن المشهد – فمن جهة لم يجر الحديث عن اعتقالات طالت عسكريين أو أمنيين في الخدمة الفعلية، وانما عن زهاء عشرين شخصاً بينهم ضباط متقاعدون وشخصيات عشائرية، بعضها مقرب من الأمير حمزة، بحسب ما تسرب في التقارير الاعلامية، التي لم تستند إلى مصادر رسمية؛ ومن جهة ثانية، لم يكن ثمة ما يوحي باجراءات استثنائية في عموم المملكة، فلا قوات عسكرية انتشرت لضبط الأمن – الهادئ أصلاً بفعل اجراءات الحجر الصحي – في حين أن كل ما قامت به قوات الأمن كان مجرد إجراءات مشددة حول القصور الملكية والسفارات وبعض المنشآت.
ومع ذلك، ثمة حقيقة واضحة وهي أن الأمير حمزة، الأخ غير الشقيق للملك عبدالله الثاني من زوجة أبيه الملكة نور، بات يمثل مصدر ازعاج للملك الأردني، لا سيما بعدما تزايدت شعبيته على نحو مثير للانتباه (والقلق) على خلفية الاحباط الشعبي من الوضع الاقتصادي الذي فاقمته جائحة “كورونا”، ناهيك عن الكشوفات المستمرة في قضايا الفساد، وكل ذلك بات كثيرون يحملون مسؤوليته للملك نفسه.
بهذا المعنى، قد يكون السيناريو الانقلابي المنسوب الى الأمير حمزة بعيداً عن الشكل التقليدي للانقلابات، ما يشي بأن المقصود ربما محاولة لتغيير نظام الحكم عبر الشارع، وذلك عبر استثمار المزاج الشعبي، مع العلم بأن الأمر سيّان في الأنظمة الملكية العربية.
ثمة حقيقة واضحة وهي أن الأمير حمزة بات يمثل مصدر ازعاج للملك الأردني، لا سيما بعدما تزايدت شعبيته على نحو مثير للانتباه (والقلق) على خلفية الاحباط الشعبي من الوضع الاقتصادي
تلك الحقيقة المتصلة بشعبية الأمير حمزة أمكن قراءتها في البيان الذي صدر مساء أمس عن رئيس هيئة الأركان المشتركة اللواء الركن يوسف أحمد الحنيطي الذي أعلن “عدم صحة ما نشر من ادعاءات حول اعتقال الأمير حمزة”، لكنه بيّن أنه طٌلب منه التوقف عن “تحركات ونشاطات توظف لاستهداف أمن الأردن واستقراره في إطار تحقيقات شاملة مشتركة قامت بها الأجهزة الأمنية، واعتقل نتيجة لها الشريف حسن بن زيد وباسم إبراهيم عوض الله وآخرون”.
لكن المثير للانتباه في بيان رئيس هيئة الأركان الأردني كان الربط بين الأمير حمزة وبين باسم عوض الله، فإذا كان ولي العهد السابق يحظى بشعبية واسعة في صفوف الأردنيين، فإن المعروف بالنسبة للثاني هو صيته السيء على المستوى الشعبي، بالنظر الى كونه عراب برنامج الخصخصة.
ومن المعروف أن عوض الله، المولود في القدس، قد شغل مناصب عديدة منها مدير مكتب الملك عبدالله عام 2006، ووزير التخطيط ووزير المالية، كما عمل مديرا للدائرة الاقتصادية في الديوان الملكي، ثم أصبح مديرا للديوان الملكي، لكنه سرعان ما اضطر للاستقالة تحت ضغط انتقادات غير مسبوقة من المحافظين الذين اتهموه باتباع برامج إصلاحات موالية للغرب تتجاهل الحساسيات العشائرية. وقد كان له ظهور إعلامي بارز خلال السنوات الماضية، حيث أدار جلسة حوارية في منتدى استثماري في السعودية، فيما تشير معلومات الى أنه يشغل منصب مستشار اقتصادي لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
إقرأ على موقع 180 السعودية قلقة من الرد الإيراني.. وواشنطن تطمئنها!
بالنظر الى سيرته الذاتية غير الشعبية في الشارع الأردني، فإن عوض الله يمكن اعتباره ورقة خاسرة اذا ما أراد الأمير حمزة أو غيره استثمارها في سياق سيناريو “انقلابي” عبر الشارع، وهو ما يقود الى فرضية من اثنتين:
إما أن السلطات الأردنية قد عمدت الى “تشميس” الأمير حمزة شعبياً عبر ربط تحركاته بشخصية على شاكلة عوض الله.
وأما أن ثمة تقاطعاً ما بين ولي العهد السابق ورئيس الديوان الملكي السابق يتجاوز البعد الداخلي للصراع، ليتصل الى بعد خارجي مفتاحه السعودية، التي يحظى عوض الله بعلاقات وثيقة معها.
ما يعزز الفرضية الثانية أن البعد السعودي يشكل قاسماً مشتركاً بين عوض الله والشريف حسن بن زيد الذي شملته التوقيفات. ومع أن الأخير لا يتمتع بأية حيثية شعبية ولا علاقة له بالعسكر والأمن الا بحدود دنيا – من بينها أنه شقيق النقيب علي بن زيد الذي قتل أثناء مهمة للجيش الأردني في أفغانستان عام 2010 – الا أن المعروف عنه هو أنه دائم الاقامة في المملكة العربية السعودية، ويحمل جنسيتها إلى جانب الجنسية الأردنية (مع العلم بأن الحصول على الجنسية السعودية أمر ممكن وسهل بالنسبة لأي من الأشراف)، وقد سبق أن شغل منصب مبعوث الملك عبد الله الثاني للرياض.
غير أن الفرضية ذاتها لها ما ينفيها، فالسعودية سارعت الى ابداء الدعم للملك عبدالله، وذلك عبر بيان صادر عن الديوان الملكي السعودي نفسه، وهو ما اعتبر الموقف الأكثر أهمية في سيل البيانات الخارجية، إذا ما استثنينا الموقف الأميركي الذي اتخذ شكل بيان صحافي صادر عن المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس شدد على أن “الملك عبد الله شريك رئيسي للولايات المتحدة وله دعمنا الكامل”.
ومع ذلك، فإن سيل مواقف التأييد نفسها تفقد السيناريو الانقلابي المنسوب للأمير حمزة عنصراً جوهرياً، وهو الدعم الخارجي للحركة المزعومة، وإن كانت ثمة من يتحدث عن ظواهر قد تدعّم وجوده، وإن كان معظمها ضعيفاً، إما بسبب طابعه غير المباشر أو بالنظر الى كونه مجرد تسريبات غير موثقة، ويمكن اختزالها بثلاثة عوامل:
أولاً، العلاقات القوية بين الأمير حمزة والديموقراطيين في الولايات المتحدة، والذين دفعت الكثير من أوساطهم باتجاه شمول الأردن بموجة “الربيع العربي” قبل عقد من الزمان.
ثانياً، العلاقات المتوترة عبد الله الثاني وبنيامين نتنياهو والتي بلغت ذروتها في تعطيل الأردن رحلة رئيس الوزراء الاسرائيلي الى الامارات، مع العلم بأن هذا التوتر ليس بجديد، حيث عبر عنها الملك بشكل صريح لصحيفة بريطانية قبل سنوات حين قال إن “أصعب الأيام في فترة حكمي كانت، ولا تزال، حين اواجه نتنياهو”. كل ذلك، أوجد في إسرائيل مدرستين فكريتين بشأن الأردن، وفق ما أشارت مؤخراً الكاتبة في صحيفة “يديعوت احرونوت” سمدار بيري: الأولى تدعو إلى استمرار حكم عبد الله، على افتراض أن الحاكم الأردني أفضل من أي احتمال آخر، أما الأخرى فقد اعتمدت شعار “أن عبد الله سيكون آخر ملك”، وبعده تتحد الضفتان الشرقية والغربية تحت الحكم الفلسطيني.
ثالثاً، ثمة تسريبات تشير الى بصمة اماراتية (ولي العهد محمد بن زايد) في ما حدث، إلا أنه ليس هناك ما يؤكدها حتى الآن، وإن كانت ثمة ملاحظة يمكن رصدها في هذا السياق، وهي تأخر البيان الإماراتي الداعم للملك عبد الله مقارنة بتوقيت سيل البيانات التي انهمرت على الأردن منذ اللحظة الاولى للكشف عن “المؤامرة”.
في العموم، لم تقدم الحكومة الأردنية ما يفيد بوجود دعم خارجي لحركة الأمير حمزة، في ما عدا ما أشار إليه وزير الخارجية ايمن الصفدي، حين تحدث عن جهات معارضة في الخارج وشخصية ما، لم يسمها، عرضت على زوجة ولي العهد السابق تأمين طائرة خاصة لنقله الى مكان آمن، وكل ذلك يبقي القضية – على الأقل ظاهرياً – في سياق داخلي، ما يثير تساؤلات حول ما إذا كان ما حدث “انقلاباً أميرياً” حاول الأمير حمزة القيام به لانتزاع ما يعتبره حقاً حرم منه عام 2004، أو “انقلاباً ملكياً” اراده الملك عبدالله لإبعاد أخيه عن المشهد، تيمناً بموقعة “الريتز” السعودية.
ماذا بعد؟
في الظاهر، يبدو أن الملك عبدالله قد حسم هذه الجولة لصالحه، وهو ما يتبدى في أن الوضع الأمني في البلاد ظل عصياً على الاهتزاز، انطلاقاً من فكرة وأد المؤامرة في مهدها، وهو التعبير الذي استخدمه أيمن الصفدي في مؤتمره الصحافي اليوم، وكذلك في أن الملك الأردني قد نال ما يكفي من دعم خارجي، لا سيما من الولايات المتحدة ومجلس التعاون الخليجي.
ولكن الأمور قد لا تقف عند هذا النحو، خصوصاً أن ظهور الأمير حمزة ليل أمس عبر رسالة مصورة تضمنت تأكيداً على أنه قيد الاقامة الجبرية – في نفي صريح لما قاله رئيس هيئة الأركان – والأهم من ذلك انتقاداً للقيادة السياسية في البلاد، وهو أمر غير مسبوق حين يتعلق الأمر بشخصية من العائلة المالكة.
ما سبق يشي بأن ما بعد الثالث من نيسان/أبريل 2021، لن يكون كما قبله في ما يتصل بمستقبل الأردن، خصوصاً أنه كشف عن جوانب ظلت حتى الأمس القريب خفية في ما يتعلق بالديناميات المحركة للسياسة الداخلية. ما حدث لن يؤدي بالضرورة الى تغييرات سريعة في المشهد، ولكنه من دون أدنى شك سيترك بصمة قوية على المستقبل القريب، لا سيما أنه وضع الأردن تحت بقعة ضوء في مرحلة دقيقة ستكون كل خطوة فيها محسوبة بدقة في الداخل كما في الخارج.