زحمة “جيوش” في الخرطوم: مخاوف من تفجّر الوضع الأمني
شكوك مستمرة حول انضباط “الدعم السريع” (ياسويوشي شيبا/فرانس برس)
زحمة “جيوش” في الخرطوم: مخاوف من تفجّر الوضع الأمني
تزدحم العاصمة السودانية الخرطوم بمئات العناصر المسلحة من الحركات التي استغلّت اتفاق السلام الموقّع بينها وبين الحكومة الانتقالية، في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لإرسال قوات لها إلى العاصمة، والتي شهدت في الأيام الأخيرة أكثر من حادثٍ مسلح، بالتوازي مع حديث عن عمليات تجنيد للحركات وبيع رتب عسكرية. هذا الأمر أثار قلقاً كبيراً، ومخاوف من تفجّر الوضع كلياً مع تعدد “الجيوش” داخل العاصمة السودانية، وتعقيدات المشهد السياسي العام في البلاد.
وقبل أيام، أصيب سُكّان حي بري والأحياء المجاورة له، شرق الخرطوم، بالهلع والخوف، عقب سماعهم تبادل إطلاق نار كثيف في قلب الحيّ العريق. وبعدما هدأت الأوضاع، اكتشفوا أن تبادل النار وقع بين الشرطة ومنتسبين لحركة “تمازج” (منشقة عن “الحركة الشعبية لتحرير السودان”)، إحدى الحركات التي وقّعت على اتفاق السلام مع الحكومة الانتقالية في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وبحسب الرواية الرسمية، فإن قسماً للشرطة في الخرطوم تلقّى بلاغاً من حركة “تمازج” ضد مجموعة انشقت عنها، وانتحلت اسم وصفة الحركة، للقيام بعملية تجنيد أفراد واستقطابهم. وبموجب ذلك البلاغ، هرعت الشرطة إلى مقر المجموعة للقبض على عناصرها من داخل إحدى الشقق، لكن المجموعة رفضت الانصياع، وتبادلت مع قوات الشرطة إطلاق النار، ما أدى في النهاية إلى إصابة عنصر من الشرطة وآخر من المجموعة.
تلك الحادثة عزّزت المخاوف من تعدد “الجيوش” في العاصمة الخرطوم، التي وفدت إليها حتى الآن قوات تمثل كلّ الحركات المسلحة الموقّعة على اتفاق السلام. ويأتي ذلك بالتزامن مع حادث آخر سبق اشتباك بري، حينما استولت قوات تابعة لـ”حركة تحرير السودان” على موقع اللجنة الأولمبية الدولية في الحديقة الدولية، في ضاحية الصحافة في العاصمة، مستخدمة سيارات دفع رباعي وأسلحة ثقيلة، وحوّلت المكان إلى ثكنة عسكرية. ولم تخرج تلك القوات من الموقع المذكور إلا تحت ضغوط كثيفة من اللجنة الأولمبية، التي لجأت إلى اللجنة الدولية الأولمبية.
ومنذ أن وُقّعت اتفاقية السلام بين الحكومة والحركات المسلحة، أرسلت بداية “حركة تحرير السودان” بزعامة ميني أركو ميناوي، قوات إلى العاصمة، وأقامت داخل الحديقة الدولية في الخرطوم، قبل نقلها إلى منطقة السليت بقرار من رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبد الفتاح البرهان. وإضافة إلى هذه القوات، وصلت طلائع أخرى من قوات تجمع “قوى تحرير السودان”، وهي أيضاً من الحركات التي وقّعت على اتفاق السلام، ويقودها عضو مجلس السيادة الانتقالي، الطاهر أبو بكر حجر، حيث وجدت استقبالاً رسمياً من الجيش السوداني. كما حضرت وحدات حراسة عسكرية أخرى تابعة لحركة “العدل والمساواة”، التي يتزعمها وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم، وقوات مماثلة تتبع لـ”الحركة الشعبية لتحرير السودان” بزعامة مالك عقار، عضو مجلس السيادة الانتقالي أيضاً. ثم ظهرت بعدها قوات لحركات غير رئيسية، مثل “تمازج”، وانضمت في اللحظات الأخيرة لاتفاق السلام. ويدور همسٌ كبير وسط المواطنين عن عمليات تجنيد وبيع رتب عسكرية، وهو الأمر الذي نفته الحركات مراراً.
وإضافة إلى الحركات المسلحة، تنتشر في الخرطوم أيضاً قوات “الدعم السريع” التي يقودها نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، وهي قوات بدأت كمليشيا قبلية، قبل أن يقنّن وضعها النظام السابق في عام 2013، بسنّ قانون خاص لها يجعل منها قوات نظامية تتبع للقوات المسلحة. لكن ثمّة شكوكاً مستمرة تساور الكثيرين حول مدى التزام “الدعم السريع” وانضباطها.
ويرى المواطن صالح النور، وهو أحد سكّان ضاحية بري حيث وقعت حادثة إطلاق النار الأخيرة، أنه من غير المعقول مطلقاً تواجد قوات عسكرية وسط المدنيين، حيث من الواجب نقلها إلى أطراف الخرطوم، على أن تُضبط وتراقب في كل تحركاتها، لا سيما حركة الأسلحة، مؤكداً في تصريح لـ”العربي الجديد” أن الهلع أصاب الجميع حينما بدأت الأحداث الأخيرة التي كان يمكن أن تؤدي إلى سقوط عدد كبير من الضحايا “لولا اللطف الإلهي”.
وتعليقاً على هذه التطورات والمخاوف الناجمة عنها، يرى الخبير العسكري، الفريق محمد بشير سليمان، أنه لا يمكن وصف تعدد الجيوش داخل الخرطوم بغير “الفوضى” التي ستحوّل السودان ككل إلى حالة اللادولة، معتبراً أن ذلك سيكون تهديداً خطيراً للأمن القومي بعناصره العسكرية والاقتصادية والاجتماعية. ويعزو سليمان ما يحدث، في حديث لـ”العربي الجديد”، إلى عدم الدقة وسوء التخطيط في محور الترتيبات الأمنية ضمن اتفاق السلام الموقّع بين الحكومة والحركات المسلحة، والذي كان من الواجب أن يحدد على وجه الدقة طريقة تجميع هذه القوات في مناطق القتال فقط، وبعد ذلك تنشأ لجان لدمجها في الجيش أو تسريحها. ويتم ذلك، بحسب رأيه، بعد إدماج هذه القوات في المجتمع المدني، من خلال تأهيلها نفسياً واجتماعياً وتوفير سبل كسب العيش لعناصرها، مشدداً على أهمية تطبيق المعايير المطلوبة في عملية التحاقهم بالجيش أو الشرطة أو جهاز الاستخبارات العامة.
ويتوقع سليمان حدوث انهيار أمني في الخرطوم ومناطق أخرى إذا ما استمرت طريقة التعامل على المنوال ذاته، خصوصاً في ظلّ خطاب عنصري متطرف برز في الفترة الأخيرة، وفي ظلّ الاختراقات ووضع اليد على بعض المقار العامة من جانب تلك “الجيوش” التي دخلت حديثاً للخرطوم، محمّلاً مجلس السيادة كل المسؤولية المترتبة على هذا الخلل الأمني، بموجب الوثيقة الدستورية التي تبيّن بوضوح مهام المجلس في الشقّ الأمني.
من جهته، ينوه المحلل السياسي طاهر المعتصم، إلى أن التأخير والبطء في تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية هو السبب الرئيس في انتشار قوات الحركات المسلحة داخل الخرطوم وإثارة المخاوف، مبيناً أن التأخير يعود إلى عدم توفير التمويل المالي لعملية التنفيذ، ومحملاً المسؤولية في ذلك لوزارة الدفاع، لعدم اجتهادها في الحصول على التمويل المطلوب. ولا يستبعد المعتصم، في حديث لـ”العربي الجديد”، وجود رسائل سياسية تريد أن تبعث بها الحركات المسلحة الموقّعة على اتفاق السلام، من خلال إبراز قوتها العسكرية في الخرطوم، في محاولة لإحداث توازن في القوة المؤثرة على المشهد السياسي. لكنه يشير إلى أن حادثة الحديقة الدولية كادت أن تتسبب في أزمة دبلوماسية، لأن القوات المسلحة اقتحمت كذلك “البيت السويدي” و”البيت الروماني”، متسائلاً عن القانون الذي يحكم تصرفات تلك القوات في حال دخل أفرادها في إشكالات قانونية. ويستدرك المحلل السياسي بقوله إن عدد تلك القوات ليس كبيراً حتى الآن، ويمكن تدريبها بالتشارك مع جهات أخرى لتؤدي مهمتها التي جاءت من أجلها، وهي تأمين قيادتها داخل الخرطوم، لا سيما أن تلك القيادات عيّنت كأعضاء في مجلس السيادة ومجلس الوزراء، وبالتالي آلت مهمة حمايتهم وحراستهم إلى جهات أخرى.
مقابل ذلك، تستنكر الحركات المسلحة ما تعتبره “حملة ضدّها من أعداء السلام”، مشيرة إلى أنه بموجب اتفاق السلام، يُسمح لكل فصيل بإحضار 66 من عناصره المسلحة إلى الخرطوم لحماية وتأمين قياداته، وعدد آخر من العسكريين للمشاركة في اجتماعات عدد من اللجان العسكرية والأمنية، مؤكدة أن كل ذلك يتم بالتنسيق مع الطرف الحكومي. وتفسر كلّ الحركات المسلحة الموقّعة على اتفاق السلام وجودها في الخرطوم، بتأمين قياداتها وحراستها، ولتنفيذ الملف الخاص بالترتيبات الأمنية الواردة في اتفاق السلام، مقللة من أي مخاوف بشأن وجودها وتهديدها للأمن في العاصمة.
ويقول المتحدث الرسمي باسم جيش “حركة تحرير السودان” – فصيل مناوي، الصادق علي، إن قوات حركات الكفاح المسلح لم تشكل في يوم من الأيام أي خطر على المدنيين، سواء في مناطق النزاع أو في الخرطوم، مبيناً أن حركته حينما فكرت في إحضار قواتها برفقة القيادة العامة لجيشها، أرادت كسر الحواجز التي بنتها الحرب، وإتاحة الفرصة للتعارف بين القيادات العسكرية لبناء مزيد من الثقة. ويدين علي، في حديث لـ”العربي الجديد”، بشدة، ما أسماه “خطاب الكراهية” ضد وجود تلك القوات في الخرطوم، علماً أن الذين حضروا “هم جزء من النسيج الاجتماعي في البلاد، ولديهم أسر وأقارب في العاصمة، وبالتالي هم ليسوا غرباء حتى تثار حولهم كل تلك الضجة التي تتضح فيها ازدواجية في المعايير”.
وينوه المتحدث باسم جيش “حركة تحرير السودان” – فصيل مناوي، إلى أن الجيش السوداني وجهاز الاستخبارات وكل القوات، لديها مقار في وسط الخرطوم، ولم يعترض على وجودها أحد، على الرغم من أن تلك القوات كانت في وقت من الأوقات جزءاً من الأزمات والمآسي، مؤكداً أن قواته وبقية الحركات تدرك معنى الحياة المدنية وتعرف كيفية التعامل مع الشعب. ويعتبر علي أن البعض “يحاول ظلماً الربط ما بين التفلتات الأمنية في العاصمة ودخول قواتهم إليها”، مؤكداً أن التفلت الأمني انتشر قبل مجيئهم إلى الخرطوم. وحول سير تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية، يقر المتحدث ببطئها، لكنه يرى أنها تمضي في الاتجاه الصحيح، على أن تكون الأولوية لتشكيل قوات مشتركة من 12 ألف جندي لحماية المدنيين في إقليم دارفور، موضحاً أن عملية التنفيذ تحتاج إلى 10 سنوات، وإلى إرادة حقيقية حتى تكون نتيجتها النهائية هي تشكيل جيش قومي موحد بعقيدة واحدة، ويعكس إرادة كل الشعب السوداني.