تحقيقات - ملفات

القوة والنظام الأبويّ.. كيف تختفي عائدات غاز “مارين غزة” في ثقب أسود والناس محاصرون وجياع؟

سعادة مصطفى أرشيد*

كالوست كوبيلكيان، رجل أعمال عراقي من أصل أرمني، حمل لقب (mr 5 percent) السيد 5 %، كان حتى وفاته في خمسينيات القرن الماضي الرجل الأغنى في العالم، جمع ثروته الهائلة من أعمال السمسرة بين الدولة العثمانية ثم المملكة العراقية من جانب وشركات النفط العالمية من جانب آخر، وكانت العراق قد عرضت عليه كامل امتياز نفط العراق، لكنه بطريقته الخاصة بالحساب، قرّر أن يكتفي بالنسبة التي أصبحت لقبه، وفي تفسيره لذلك أطلق مقولته الشهيرة: إنّ أكبر قطعة صغيرة من رغيف كبير، خير من أكبر قطعة كبيرة من رغيف صغير.

بما أنّ المعرفة قوة، وبسبب افتقار حكوماتنا للمعرفة بأنّ سواحلنا المتوسطية تحوي في قعرها مقادير استراتيجية من الغاز، ولم تعرف حكوماتنا بذلك إلا في العقدين الأخيرين، فيما عرف آخرون بذلك في وقت مبكر، كان في أعقاب أزمة النفط العالمية التي نتجت عن حرب تشرين الأول 1973، ومن هؤلاء كان الغرب عموماً، والتركي و”الإسرائيلي”، وكان من عواقب هذه المعرفة – القوة المبكرة، الاجتياح التركيّ لقبرص عام 1974، وتقسيم الجزيرة، لكي يحتفظ الجزء التركي منها بمياه إقليمية ممتدّة، وكذلك كان من الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة و”إسرائيل” على إذكاء نار الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، كمقدّمة لسلخ لبنان عن محيطة الطبيعي – القومي والحاقة (بإسرائيل) عبر معاهدات سلام، وأخيراً فقد كان الغاز سبباً من أسباب الحرب الكونية على الشام والتي لا تزال مشتعلة.

تشكلت السلطة الفلسطينية بموجب اتفاق أوسلو، وتكامل دخول القيادات الفلسطينية وجماعات الفصائل العسكرية والمدنية إلى أراضي السلطة الجديدة عام 1994، بعيد ذلك، كلف الرئيس في حينه رئيس سلطة الموارد الطبيعية، المرحوم إسماعيل المسحال، بالتنقيب عن الثروات الطبيعية في الأراضي التي يبيح اتفاق أوسلو التنقيب بها، واعتمدت سلطة الموارد الطبيعية في بحثها عن البترول والغاز إلى مسوح أجراها جيولوجي انجليزي – لبناني، تؤكد وجود الغاز بكميات قدّرت بعشرات مليارات الأمتار المكعّبة في مياه البحر الأبيض المتوسط، غير بعيد عن غزة، ثم تمّ إجراء الفحوص اللازمة حيث تبيّن أنّ الغاز المكتشف من النوع العالي الجودة، النقي من الشوائب، ثم انه قريب من الساحل وعلى عمق ضئيل، الأمر الذي يجعل من تقنيات استخراجه سهلة وذات تكاليف منخفضة، وكانت التقديرات الأولية للحقلين الأولين أنهما قادران على تزويد ميزانية السلطة، بما يقارب أربعة مليارات ونصف مليار دولار أميركي سنوياً، هذا عدا عن حاجات السوق الفلسطيني، وتسهيل توليد الكهرباء وخفض تكاليف إنتاج السلع المحلية، لدرجة اعتبر معها الرئيس الراحل، أنّ هذا الغاز هو هدية ربانية للشعب الفلسطيني.

قام الرئيس بتكليف رئيس سلطة الموارد الطبيعية، بالبحث عن مستثمرين دوليين لاستخراج الغاز، وتمّ التفاوض مع عدد من الشركات العالمية للحصول على أفضل العروض لاستثمار هذا الكنز – الهدية الربانية، لكن الرئيس في حينه، أبدى رغبة في إعطاء الأولوية للشركة الانجليزية B. G (بريتش غاز)، ربما لأسباب سياسيّة، تفاوض رئيس سلطة الموارد معها على قاعدة حصول السلطة على 51 % من الأرباح مقابل 49 % للشركة الانجليزية، ولكن المفاجأة كانت بأن قاد المستشار الاقتصادي للرئيس، خالد سلام مفاوضات موازية انتهت بأن وقعت السلطة الفلسطينية على عقد تحصل به على 10% مقابل 60 % للشركة الانجليزية و30 % لشركة سي سي سي ccc، وبموجب العقد تحتكر الشركة الانجليزية حق التنقيب عن أيّ مصدر من مصادر الثروات الطبيعية في الساحل الغزي وحق تسويقه، جرى كلّ ذلك من دون طرح عطاء أو تنافس بين الشركات ذات الاختصاص، ومن دون أن تعرض الاتفاقية على الحكومة أو على المجلس التشريعي لاحقاً، ولم يتمّ نشرها في الجريدة الرسمية، ولم يعرف من بنودها إلا ما تقدّم ذكره، من هنا أحاط بالعقد غموض مريب، جعل من ساحة الأقاويل واسعة، وأصبح لدى فلسطين السيد صاحب الرقم الذي يفوق السيد 5 % العراقي – الأرمني القديم.

انسحبت الشركة الانجليزية، أو أنها باعت حصتها من العقد لجهة نفترض أنها مجهولة، وأعلنت انسحابها من العقد متذرّعة بحجج منها نجاح حركة حماس في الانتخابات حيناً وبالانقسام الفلسطيني حيناً آخر، ولكن النتيجة كانت أن وضعت (إسرائيل) يدها على حقول الغاز، لتتصرّف بها كما تشاء.

قبل نحو عامين، أصبح التمركز التركي في ليبيا أمراً مؤرقاً لعدد من دول شرق المتوسط التي رأت في التمدّد التركي تهديداً لأمنها القومي، وقيل إنّ تركيا تهدف في ما تهدف إلى ترسيم حدود بحرية تصل مياهها الإقليمية بالمياه الإقليمية الليبية، وقيل عن مشاريع عملاقة تتعلق بالتنقيب عن النفط والغاز ومدّ خطوط بحرية لأوروبا، رداً على ذلك تمّ تشكيل منتدى غاز شرق المتوسط كمنظمة دولية، هدفها المعلن تنسيق السياسات المرتبطة بالغاز والتنقيب عليه واستخراجه ونقلة وتسويقه، بما يحقق المصالح المشتركة للدول الأعضاء وهم كلّ من مصر و(إسرائيل) وإيطاليا واليونان وقبرص اليونانية والأردن وأخيراً فلسطين، وقد حضر حفل التوقيع وزير الطاقة الأميركي وممثلون عن المجموعة الأوروبية والبنك الدولي ودولة الإمارات العربية.

الداعي لذكر كلّ ما تقدم من تفاصيل، هو زيارة وزير الطاقة المصري طارق الملا يرافقة مدير الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية مجدي جلال، لكلّ من تل أبيب ورام الله في الأسبوع الماضي، وقد حظيت الزيارة بحفاوة استثنائية وباهتمام في كلتا المدينتين، فيما اقتصرت التغطية الإعلامية الواسعة على الصحافة العبريّة.

في تل أبيب لم يكتف الوزير المصري بلقاء نظيره (الإسرائيلي) حسب ما جرت العادة عند زيارة الوزراء التقنيين، وإنما استقبله كلّ من رئيس الحكومة نتنياهو، ووزير الخارجية غابي أشكنازي، وصرّح الوزير المصري انه جاء لتفعيل نشاطات منظمة غاز شرق المتوسط، ولعقد اتفاقيات استثمار في مجال الغاز تنقيباً واستخراجاً ونقلاً وتسويقاً، أما في رام الله فتفيد الأنباء القليلة انه تمّ الاتفاق على استثمارات مشتركة لحقول الغاز على ساحل غزة وخاصة حقل (مارين1) الأغزر إنتاجاً، وتمّ التوقيع على اتفاقية تطوير الحقل وتوقيع شريكين من الشركاء وهم صندوق الاستثمار الفلسطيني الذي يملك 10% وشركة سي سي سي ccc التي تملك 30% وبين شركة (ايجاس) المصرية، واشتمل الاتفاق تزويد كلّ من محطتي جنين وغزة بالغاز.

لم يتمّ نشر نص الاتفاقية في هذه المرة أيضاً، وبقيت معرفة تفاصيلها محصورة بمن وقعها ومجموعة قليلة من رجال السلطة، ولا نعلم إن كانت قد عرضت او ستعرض على الحكومة، كما لم نعرف مَن هو السيد 60%، إنّ غياب نشر الاتفاقية إنْ هو إلا تعبير عن تكرار غير حميد لتجربة سابقة ورد ذكرها، وغياب للشفافية، في أمر استراتيجي واقتصادي بالغ الأهمية، ويندرج تحت عنوان الأمن القومي، صدرت بعض الانتقادات على ذلك، وحملت بدورها نقداً هزيلاً اعتمد على الفئوية والمناطقية، لا على جوهر الاتفاقية، التي تمّ الردّ عليها من قبل متحدّثين باسم السلطة والحزب الحاكم أيضاً رداً غير موفق، بأن قالوا إنّ هذا أمر يتعلق بالدولة الراعية لشعبها وأن لا علاقة للأحزاب أو الأفراد بالأمر، والدولة (السلطة) غير مضطرة أن تعلن أو تنشر نص الاتفاقية، فهي من يعرف مصلحة الشعب البسيط، الأمر الذي يذكرنا بالنظام الأبوي الذي أصبح محصوراً عند شعوب قليلة بالعالم، إنْ لم يكن نظاماً منقرضاً…

*سياسي فلسطيني مقيم في جنين – فلسطين المحتلة.

أقلام حرة

المصدر: سعادة مصطفى أرشي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى