السيد علي السيستاني: توازن العراق واتّزانه
هشام عليوان -أساس ميديا
مع أنه ينتمي إلى مدرسة المرجعية الصامتة كما يقال في العراق، بخلاف المرجعية الناطقة لأبرز مرجِعَيْن من سلالة الصدر في القرن العشرين، الصدر الأول، السيد محمد باقر الصدر الذي أُعدم عام 1980، والصدر الثاني، السيد محمد محمد صادق الصدر الذي اغتيل عام 1999، فإنّ المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني، هو صاحب النفوذ الأقوى في العراق، منذ سقوط النظام البعثي عام 2003، على يد التحالف الغربي بقيادة واشنطن. ولم يتمكّن لا الصدريون الجدد أتباع السيد مقتدى الصدر، نجل الصدر الثاني، ولا الصدريون القدامى أتباع محمد باقر الصدر، والذين يوالون حاليًّا وفي الغالب، إيران ووليّها الفقيه السيد الخامنئي، من إزاحة السيستاني عن مكانته، وهو الإيراني مولدًا وجنسيّة.
في التسلسل العلمي، تتقاطع طُرُق محمد باقر الصدر وعلي السيستاني. فالاثنان تتلمذا على المرجع الأكبر السيد أبي القاسم الخوئي (توفي 1992). لكنّ الصدر الأول، هو أحد مؤسّسي حزب الدعوة في العراق عام 1957، الذي هو أول حزب سياسي شيعي حديث، لم يكن مقلّدو مراجع التقليد في تلك الحِقبة المبكّرة، قد ألفوا هذا النوع من الحراك السياسي، مع اتهامه كذلك باقتفائه آثار الحركة السنيّة الناشئة آنذاك، أي الإخوان المسلمين وحزب التحرير. وتميّز الصدر بآرائه الإصلاحية للمرجعية الشيعية، وتجديد نظام الدروس في الحوزة، داعيًا إلى تعرّف العلوم الحديثة، وكاتبًا في مجالات غير تقليدية بأسلوب العصر، بحيث انتشرت كتاباته في كل الأوساط، ولقيت اهتمامًا من مختلف الاتجاهات. وهو إلى ذلك، سبق الثورة الإيرانية في التصدّي المباشر للشأن السياسي في بلاده، قبل توسيع إطار مفهوم ولاية الفقيه مع السيد روح الله الخميني (توفي 1989).
أما السيستاني، فمحسوب على التيار التقليدي. وليس في سيرته العلمية أيّ شيء غير متوقّع، من تلقّي العلم في مشهد، ثم انتقاله إلى قُم وتتلمذه على علمائها، ثم ترحاله إلى النجف قبل أكثر من سبعين سنة، حيث أكمل دراساته المتعمّقة مع السيد الخوئي والشيخ حسين الحلّي (توفي 1974)، ومع آخرين بدرجة أقل. ولأنّ السيستاني كان من ألمع تلامذة الخوئي فنال درجة الاجتهاد منه، وهو لم يعطِ أحدًا إلّا في ما ندَر من تلاميذه، ونال درجة الاجتهاد المطلق من الحلّي، وهي درجة لم يعطِها لأحد غيره أيضًا، فكان تسنّمه موقع المرجعية عقب وفاة الخوئي، بالشراكة مع السيد عبد الأعلى السبزواري (توفي عام 1993) أمرًا متوقعًا كذلك، لا سيما وأنه أمّ المصلين عند مرض الخوئي في آخر حياته، بطلبٍ منه. فكانت تلك الإشارة التي دفعت مرجعيته إلى الصدارة. وما ساعده أكثر في تعزيز موقعيّته المرجعيّة في العراق والعالم العربي، وفاة مراجع عدة في زمن متقارب، السيد رضا الكلبيكاني، والشيخ محمد علي الأراكي (توفّيا عام 1993) والسيد محمد الروحاني (توفي عام 1997)، فأصبح نقطة جذب لمقلّديهم على التوالي.
ومع كون السيستاني من المدرسة التقليدية للخوئي، إلا أنّ سيرته التعلّمية والتعليمية تشير إلى تجديد في الأسلوب التدريسي في الحوزة، وإلى اطّلاعه الواسع على المذاهب الفقهيّة السنيّة، وعلى القوانين الوضعيّة، وتضلّعه الدقيق بالفلسفات الحديثة (الشيوعيّة والرأسماليّة والوجوديّة) (راجع الشيخ أحمد الخفاجي، دور المرجعية الدينيّة في إصلاح الواقع العراقي السيد السيستاني نموذجًا)، وإنْ ليس بالقدر الذي اشتُهر به زميله محمد باقر الصدر. وعلى الرغم من أنّ السيستاني، من أنصار ولاية الفقيه الضيّقة النطاق، لا الواسعة على الطريقة الخمينيّة، إلا أنه متأثر بنسبة ما، كما غيره، بالمناخ الذي أشاعه الشيخ محمد حسين النائيني (توفي عام 1936) منظّر الثورة الدستورية في إيران، والداعي إلى المَلَكية المشروطة لا الاستبدادية، بدستور ومجلس نيابي، ورقابة فقهاء على تشريعات البرلمان. والنائيني الذي طُبع كتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملّة عام 1909، فكان نصًّا سياسيًّا رائدًا في الزمن الحديث، انتقل إلى النجف بعد فشل الحركة الدستورية في إيران، وانقلاب رضا بهلوي (توفي عام 1944) على العلماء الذين أيّدوا خلعه للمَلَكية القاجارية، مُنشئًا ملكًا استبداديًّا آخر باسم الأسرة البهلويّة (مقدمة الشيماء العقالي على كتاب تنبيه الأمة). وإن كان النائيني لم يصل إلى ما وصل إليه الخميني أخيرًا، من حكم الفقيه الوليّ للدولة في إيران، لكنه أحدث خرقًا مهمًّا في الجدار. وفي النجف، عكف النائيني على التدريس، بل حاول التخلّص من كتابه الأشهر، عندما بدأ ينحو إلى تسنّم مقام المرجعية الدينية. لكنّ أثر فكره لم ينقطع في أجيال العلماء النجفيّين، ومنهم السيستاني كما يبدو من فتاويه السياسية منذ سقوط صدام حسين، حتى لو كان يعتقد بأضيق مجال للتدخل في أمور السياسة، وعند الضرورة فقط، مع توالي الأحداث الجسام، من تكوين مجلس الحكم الانتقالي، وكتابة الدستور الجديد، وتنظيم الانتخابات العامة، والتصدّي للفتنة الشيعية – السنية، والدعوة إلى الوجوب الكفائي في قتال داعش، أي إن قام بعض الأفراد به سقط وجوبه عن الباقين. فلا يمكن إغفال السيستاني في أيّ مرحلة من المراحل التي مرّ بها العراق إثر إسقاط النظام فيه. فهو ليس الولي الفقيه حتمًا، كما هو حال الخامنئي في إيران، لكن لا يمكن لأيّ سياسيّ عراقي، سواء أكان في موقع رسمي أو ميليشيوي، أن يتجاهل رأيه.
وعنه، يقول مهندس الغزو الأميركي للعراق، وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد Donald Rumsfeld في مذكراته “المعلوم والمجهول، مذكرات“، إنّ السيستاني خلال الاحتلال الأميركي، ارتأى وضع نفسه على مسافة من الأميركيين، رافضًا استقبالهم سواء أكانوا عسكريين أو مدنيين. وفي لحظات حرجة، نجح في تهدئة الشيعة الغاضبين بعد استهدافهم بالعمليات التفجيرية، لا سيما بعد تدمير قبّة الإمامَيْن العسكريّين بسامراء عام 2006، في مقابل التحريض الذي تولاه السيد مقتدى الصدر. ويختم فكرته بالتأكيد على أنّ العراق سيكون بلدًا مختلفًا تمامًا من دون السيستاني، الذي كان حريصًا على الابتعاد عن النموذج الإيراني في الحكم.
لقد حرّم السيستاني نهب المقارّ الحكومية إثر انهيار السلطة عام 2003، ورفض السيطرة على مساجد أهل السنة، وطرد أئمة الصلاة منها. كما رفض وضع اليد على الأراضي التابعة للبلديات من دون موافقة الجهات الرسمية. ومنع تدخّل علماء الدين في الشؤون التنفيذية والإدارية. ولم يسمح بالانتقام المباشر من أتباع النظام السابق من دون محاكمات. وعارض كتابة الدستور الجديد قبل إجراء انتخابات عامة، بل يكتب مواد الدستور ممثّلو الشعب العراقي.وذلك، لأنه لا ضمان من دون ذلك، أن يُكتب الدستور بما يحقّق مصالح الشعب العراقي، وبما يعبّر عن هويته. ومع تكاثر العمليات ضدّ الشيعة، حذّر من الانجرار إلى فتنة طائفية، لا سيما بعد تفجير القبة بسامراء. واستنكر استهداف الكنائس في بغداد والموصل.
من أجل تلك المواقف، رُشّح السيستاني لنيل جائزة نوبل للسلام أكثر من مرة. فالصحافي الأميركي توماس فريدمان دعا في مقال له في “النيويورك تايمز” عام 2005 إلى منح السيستاني جائزة نوبل للسلام، لما قدّمه من عون، لإقامة النظام الديمقراطي في العراق. ووقّع عشرات الآلاف من أنحاء العالم ومنهم مسيحيون عراقيون، على عريضة تؤيد منحه الجائزة. وفي عام 2014، كتب الصحافي كولين فريمان في “صنداي تلغراف” داعيًا إلى منحه جائزة نوبل، لأنه جنّب العراق كارثة بعد تفجير قبّة سامراء.