متابعة تضاريس زيارة الحج التاريخية لبابا الفاتيكان الى العراق، تظهر بوضوح حجم المآسي التي لم تنجح حكومات ما بعد الاحتلال الاميركي عام 2003 في إخفائها رغم جهود حكومة مصطفى الكاظمي في محاولة “مكيجة” الندوب الجاحظة في وجه العراق وروحه فضلا عن نفسية العراقيين ودمهم المُسال على الطرقات وفي الساحات.
ايام الحج البابوي الى بلاد الرافدين فرضت نفسها على الحكم العراقي المتعدد الرؤوس والمحكوم من ميليشيات الحشود الشعبية والولائية على السواء. كما أشاعت مفردات مثل المحبة والسلام، ومكافحة الظلم والفساد، وإيقاف شلال الدم العراقي الذي بات أشبه بالنهر الثالث. مفردات البابا فرنسيس تحولت أمنيات غائرة في الوجدان الجمعي العراقي التواق الى السلام الحقيقي القائم على إشاعة العدل والمساواة والتنمية والاهم من ذلك الكرامة. كرامة الانسان العراقي المسحوقة جراء عبث الميليشيات وتغولها في مفاصل الدولة العراقية التي جعلها التخادم الايراني الاميركي في فم ايران الجارة اللدودة للعراق.
واذ اكتسبت زيارة البابا فرنسيس لمدينة النجف حيث مرقد الامام علي بن ابي طالب، ولقائه بالمرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني أهميتها الرمزية والتاريخية، وسط حفاوة نجفية لافتة، سيّما وأنها الحلقة التي ربما أراد زعيم الكنيسة الكاثوليكية دمجها معنويا بوثيقة الآخاء الانساني التي وقعها مع شيخ الازهر احمد الطيب في ابوظبي، رغم أن قمة النجف لم تشر لذلك، كما لم تشر الى توقيع وثيقة مماثلة بين السيستاني وضيفه البابوي.
وبالعودة الى تضاريس الزيارة البابوية، فقد كانت المحطة المكثفة بالدلالات الايمانية والتاريخية في مدينة أور حيث بيت ابو الانبياء ابراهيم الخليل، وفي هذه المدينة المجسرة بين الأرض والسماء كان اللقاء الايماني يبين مختلف أحفاد النبي ابراهيم وايضا الصابئة المندائيين والايزيديين، يمثل تعبيرا حقيقيا عن العراق الحقيقي والانسان العراقي الحقيقي الذي تجهد سياسات الاقصاء والتهجير والتهميش والمغالبة الى فرض قوانينها المغايرة عليه.
صحيح أن بابا الفاتيكان غامر أمنيا وكورونيا في زيارته الى العراق، لكن تنقلاته الجوية بين بغداد والنجف ومنها الى أور، ربما حجبته عن أوجاع ومظالم ومطالب أحفاد النبي ابراهيم في الناصرية الثائرة من أجل كرامة العراق، واستعادة سيادته ورفع الهيمنة الايرانية الاميركية عنه، رغم أن ابناء الناصرية لم يقصروا في إسماع صوتهم للبابا، وهو الصوت الذي عملت حكومة الكاظمي على إخفائه عبر طلبها من أبناء الناصرية تأجيل احتجاجاتهم لما بعد انتهاء زيارة رئيس الدولة الفاتيكانية.
بدون شك سيكون لزيارة رئيس الكنيسة الكاثوليكية انعكاسها على المشهد السياسي العام في العراق الذي يعيش على فوهة بركان جراء قصف الميليشيات التابعة لايران الصاروخي للقاعدة الاميركية في مطار أربيل وايضا لقاعدة عين الاسد في الانبار، وقد استتبع هذا القصف الصاروخي بانفجار عبوات ناسفة بأرتال تابعة للاميركيين في العراق، وهو القصف الذي كانت الادارة الاميركية تقيمه وتدرس خطوات الرد عليه، سيما وأن الرد على قصف مطار اربيل وصف من قبل مراقبين وعراقيين كثر بالقصف الكاريكاتوري.
ربما سيمر بعض الوقت حتى تتكشف النتائج الحقيقية لزيارة البابا الى العراق الذي تعصف به أيضا رياح التفكك التي ستصيب بدورها كامل دول المنطقة حال انطلاق قطارها المشؤوم من العراق. فالعراق هو مفتاح المنطقة وميزانها سلما وحربا، وحدة وتقسيما أو تفككا. ولو اهتزت خرائط وخطوط العراق بأبعاها الجغرافية والديمواغرافية والدينوغرافية والحضارية والثقافية فستهتز اوتوماتيكيا ودراماتيكيا خطوط وخرائط دول جوار العراق، سيّما وأن قانون تقسيم العراق الذي أقر بمسعى من جو بايدن السناتور لم يزل حيا يرزق، وربما سيحرص بايدن على إخراجه من خزائن الكونغرس ووضعه موضع التنفيذ.
وفي لبنان انتصبت عناصر التفكك من خلال الدعوات الى مؤتمر تأسيسي، والمثالثة، والفيدرالية، وما هو “أبعد من الفيدرالية” كما صرح وزير الطاقة والاتصالات والخارجية السابق ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. والجديد في الموضوع تجلى في رؤيتين متضاربتين ومتناقضتين لكل من سيّد الضاحية وسيّد بكركي. فطروحات البطريرك الماروني بشارة الراعي المطالبة بحياد لبنان، وبعقد مؤتمر خاص لتثبيت وجود لبنان ومنعه من الزوال برعاية الامم المتحدة، فسره سيّد الضاحية بالتدويل. التدويل ذاك المصطلح التخويني الذي رشق به الاعلام الايراني طروحات بكركي، في لحظة بلغ فيها انهيار الليرة اللبنانية مدى غير مسبوق، كما بلغت احتجاجات الغضب من ارتفاع الاسعار التموينية، وانخفاض قيمة الطبقة السياسية اللبنانية مدى غير مسبوق ايضا. لكن التناقض بين سيّد الضاحية وسيّد بكركي، قابله توافق بينهما، ففيما يعتبر السيد نصرالله أن المساس برئيس الجمهورية خط أحمر، فإن البطريرك الراعي لم يطالب باستقالة ميشال عون رغم تصعيده غير المسبوق واعتباره والطبقة السياسية أعداء للشعب اللبناني.
ربما لم يكن لبنان جزءا من مداولات البابا مع مرجعية النجف التي يقلدها نصف شيعة لبنان، في حين أن نحو النصف الاخر يتبع الولي الفقيه في ايران ويعتبر نفسه جنديا في جيوشه وأذرعه في لبنان والمنطقة وفق معادلة “سنكون حيث يجب أن نكون”، وهي المعادلة التي لم يطلق لأجلها السيستاني فتوى شبيهة بفتوى الجهاد ضد داعش، أو شبيهة باللافتوى ضد الأميركيين منذ عام 2003 وحتى اليوم، ما يعني أن صواريخ الخزعلي وحزب الله العراقي المخصبة ايرانيا، خالية من أي تغطية سيستانية.
زيارة البابا فرنسيس التاريخية الى العراق، كان ينتوي البابا يوحنا بولس الثاني القيام بها عشية احتلال العراق عام 2003، ويومها أوفد الكاردينال أتشيغاري في مهمة سلام لم تنجح في تجنيب العراق مرارات كأس الحرب الظالمة التي دمرته رغم إشعال الشموع على سعف النخل قرب مقام الخضر الياس على ضفاف دجلة في بغداد.
فهل تنجح زيارة البابا فرنسيس في المساهمة بتضميد جراح العراق ومنعه من الانزلاق نحو التفكك والتقسيم، كما وإعطاء العراقيين جرعة الأمل التي يرجونها والتغيير الذي ينشدونه، وهل ستترجم الزيارة الشجاعة للبابا فرنسيس في إحداث التغيير عبر الانتخابات المقبلة في بلاد الرافدين وإعادة تكوين السلطة وبناء عقد سياسي اجتماعي جديد وفق معايير وطنية وغير طائفية تعيد التوازن الى بلاد الرافدين وسومر وبابل وأشور والرشيد، ليعود التوازن الى المنطقة عبر ميزانها العراق؟
هذا ما ستجيب عليه الاسابيع القادمة.