دعم المحروقات… بين المسّ بالاحتياط والمصادر الخارجية غياب الحلّ السياسي يربط الأزمة اللبنانية بالمأساة الفنزويلية
جاسم عجاقة- الديار- مانشيت
تأمين الثبات النقدي مدخل للأمن الاجتماعي ووسيلة الخروج من الأزمة
دعا أول من أمس رئيس الجمهورية العماد ميشال عون إلى إجتماع في قصر بعبدا لمناقشة أزمة المحروقات والدعم الإجتماعي لموظفي الدولة. وحضر الاجتماع كلٌ من رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزراء المال، غازي وزني، والطاقة، ريمون غجر، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة.
المناقشات أدّت إلى عدد من القرارات، ومن المتوقع أن يكون لها وقع إيجابي على أزمة المحروقات التي إستعرّت في الآونة الأخيرة إذا ما تم ضبط التهريب والاحتكار، إضافة إلى تأمين دعم مالي مباشر لموظفي الدولة. وصدر بعد الإجتماع عدد من القرارات :
أولا – تطلب وزارة المال من مصرف لبنان فتح حساب مؤقت لتغطية دعم عاجل وإستثنائي للمحروقات (بنزين ومازوت وغاز منزلي ومقدمي الخدمات وصيانة معامل الكهرباء) بقيمة الفارق بين سعر صرف الدولار على منصة صيرفة وسعر الدولار في جدول تركيب الأسعار الصادر عن وزارة الطاقة والمياه والذي يبلغ 8000 ليرة لبنانية مع وضع سقف 225 مليون دولار أميركي لتغطية شراء المحروقات حتى أخر أيلول 2021. هذه الخسارة سيتمّ تحميلها إلى خزينة الدولة من خلال فتح إعتماد في موازنة العام 2022 أي تمّ ترحيل الخسائر إلى موازنة العام 2022.
ثانيًا – الطلب إلى الأجهزة الرقابية الأمنية والعسكرية والقضائية التنسيق فيما بينها للحؤول دون تخزين مواد البنزين والمازوت والغاز المنزلي أو احتكارها أو استغلال المخزون الموجود حالياً لتحقيق أرباح غير مشروعة. وإذا كان التهريب لم يُذكر بشكل مباشر لكن عبارة «أرباح غير مشروعة» تشمل عملية التهريب وبالتالي يُمكن القول أن هذه الأجهزة أخذت الغطاء السياسي لمكافحة التهريب.
ثالثًا – تعديل قيمة تعويض النقل المُحدّد بالمرسوم رقم 538\2008 بحيث يُصبح 24 ألف ليرة عن كل يوم حضور بدل 8000 ليرة لبنانية حاليًا. أيضًا تمّ إقرار مساعدة اجتماعية طارئة توازي أساس الراتب الشهري أو المعاش التقاعدي على أن يتمّ تسديدها على دفعتين. ويستفيد من هذه المساعدة كل موظفي الإدارة العامة مع الطلب إلى وزير المال إعداد دراسة لمعرفة إمكانية شمول تلك المساعدة المستخدمين في المؤسسات العامة وموظفي البلديات.
هذه القرارات التي هي من صلاحيات الحكومة، تمّ أخذها بموافقة إستثنائية من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المُستقيلة على أن يتمّ عرضها لاحقًا على الحكومة الجديدة للموافقة عليها على سبيل التسوية.
تمويل الدعم
السؤال الجوهري الذي يطرحه المراقب هو عن مصدر الدولارات التي سيأتي بها مصرف لبنان مع رفضه المسّ بالإحتياطي الإلزامي من دون غطاء تشريعي؟ في الواقع الإحتياطي من العملات الأجنبية للمصرف المركزي، مُكوّن من عدة موجودات منها ما هو قابل للإستخدام ومنها ما هو غير قابل للإستخدام، ويدخل الإحتياطي الإلزامي في خانة الموجودات غير القابلة للإستخدام لأسباب قانونية. وبالتالي هل يحمل مصرف لبنان دولارات قابلة للإستخدام من خارج الإحتياطي الإلزامي؟ عمليًا سيعمد مصرف لبنان بحسب التوقعات إلى تمويل هذه السلفة من الفائض في الإحتياطي أي القابل للإستخدام (إذا ما وُجد) والذي قد ينتج عن سحب المودعين ودائعهم بالعملة الوطنية، حيث أن كل سحب لمئة دولار أميركي – بالليرة اللبنانية يُحرّر ١٥ دولارا أميركيا من الإحتياطي الإلزامي والتي تُصبح حكمًا من الأموال القابلة للإستخدام. أيضًا سيعمد مصرف لبنان إلى شراء الدولارات على منصّة «صيرفة» ويُرجّح أن تكون المصارف هي الجهة التي ستؤمّن قسمًا من هذه المبالغ. ويُمكن أيضًا لمصرف لبنان أن يستفيد من الدولارات القادمة من الخارج من عدّة مصادر لدعم هذه السلفة التي ستطلبها وزارة المال منه.
حلّ مؤقّت
هذا الحلّ هو حل مؤقّت ومن المفروض أن يُريّح المواطن اللبناني حتى شهر أيلول إذا ما نجحت الأجهزة الرقابية والأمنية والعسكرية والقضائية بمكافحة الإحتكار والتهريب. هذا الشرط هو أساسي لنجاح عملية الدعم حيث أظهرت أرقام المركزي لشهر تموز الماضي، إنفاق أكثر من 800 مليون دولار على المحروقات تمّ إحتكارها لتخزينها وتهريبها بحسب ما أظهرته المداهمات التي قام بها الجيش اللبناني والقوى الأمنية.
عمليًا طوابير السيارات أمام محطات الوقود ستستمر حتى في ظل فرضية تحرير كامل لسعر صرف الشراء – أو ما يُسمّى برفع الدعم. السبب يعود إلى أن هناك كتلة نقدية محدودة بالدولار الأميركي في السوق اللبناني وبغض النظر عن السعر، سيستمر التجار بإستيراد المحروقات للسوقين اللبناني والسوري وسيتم إعتماد مبدأ المفاضلة.
في السابق – أي قبل تشرين الأول 2019 – لم تكن هذه المُشكلة مطروحة بحكم أن حجم الكتلة النقدية كان مدعومًا بتدفقات بالعملة الصعبة من الخارج، وبالتالي ظهرت المشكلة مع بدء القيود على حركة قدوم الدولارات إلى لبنان. من الناحية الاقتصادية لا يمكن وقف هذه الظاهرة إلا بأحد أمرين، إما التساوي في سعر المحروقات في البلدين، وإما بتحسن الليرة اللبنانية مقابل الدولار أو العملة السورية بحيث تنتفي الإستفادة من التهريب ومما هو معروف في علم الاقتصاد بالـ « Arbitrage».
غياب الحلّ السياسي يُطيل الأزمة
غياب حلّ سياسي، يسمح بتشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات والتفاوض مع صندوق النقد على برنامج لإستعادة السيطرة على المالية العامة، وإستجلاب إستثمارات دولية (على مثال مؤتمر سيدر)، ووضع خطّة إقتصادية لهذه الإستثمارات، سيؤدّي حكمًا إلى تردّي الوضع الإقتصادي والمعيشي أكثر مما هو عليه الأن.
السيناريوهات المطروحة – في ظل فرضية غياب الحل السياسي – كثيرة وأحلاها مرّ! فمثلا يُمكن لسعر صرف الدولار في السوق السوداء أن يرتفع بشكل كبير مما سينعكس حكمًا على أسعار السلع والبضائع في ظل إنكماش إقتصادي للعام الثالث على التوالي. هذا الأمر سيؤدّي إلى زيادة الفقر وسيدفع لبنان إلى مزيد من المآسي الإجتماعية على مثال ما يحصل في فنزويلا ليُصبح لبنان فعلا «فنزويلا الشرق الأوسط».
الحديث عن تواريخ حاسمة هو أمر غير دقيق إقتصاديًا، فعملية تشكيل الحكومة هو الباب للخروج من الأزمة وكل تأخير في عملية التشكيل سيؤدّي حكمًا إلى أمرين: الأول زيادة الخسارة المالية والثاني تفقير أكثر للشعب اللبناني بحكم أن المدخرات تنفد يومًا بعد يوم. لذا نرى أن الطريق نحو المأساة الفنزويلية (علماً بأن فنزويلا بلد مُنتج للنفط!) يُمكن أن يكون طويلا ويُمكن للقوى السياسية إخراج البلد من هذا الطريق عن طريق تشكيل حكومة قادرة على القيام بإصلاحات وإعادة هيكلة الإقتصاد والقطاع المصرفي والأهم إعادة هيكلة دينها العام ومحاربة الفساد.
الثبات النقدي ثم الثبات النقدي
إقتصاديًا الثبات النقدي هو شرط أساسي للثبات الإجتماعي، وأي خلل في الثبات النقدي يؤدّي حكمًا إلى ضرب الأمن الإجتماعي وهو ما أكدته مرّة جديدة الأزمة اللبنانية.
السياسات النقدية للمصارف المركزية تعتمد على أهداف مُحدّدة في القوانين التي أنشأت المصارف المركزية. وتختلف الأولويات بين مصرف مركزي وآخر بحسب النصوص القانونية، فمثلا ثبات الأسعار لدى البنك المركزي الأوروبي هو أولوية على حساب باقي الأهداف، في حين أن تحفيز الإقتصاد وخلق فرص عمل هو أولوية بالنسبة للإحتياطي الفيدرالي الأميركي. لكن المهمة المُشتركة بين كل المصارف المركزية تبقى دون أدنى شكّ «ثبات الأسعار».
ثبات الأسعار هو جوهر الثبات الإجتماعي وبوصلة التوازن الاقتصادي، وتُجمع الأبحاث الأكاديمية أن أي أفق تطور في المُجتمعات مُرتبطة بثبات الأسعار وهو ما يعني أن السياسات الإقتصادية – بشقّيها المالي والنقدي – تتمحور حول هذه المهمة.
ويبقى السؤال الأساسي كيف يُمكن ضمان ثبات الأسعار؟ عمليًا يتمّ هذا الأمر من خلال التكامل والإنسجام بين السياسة النقدية والسياسة المالية، ولا يمكن لأي واحدة منهما مواجهة الأزمات منفردة، فلا بد للسياسة المالية للحكومة من التناغم مع السياسة النقدية والعكس بالعكس. فالسياسة المالية تهدف – في هذه الحالة – إلى تأمين ماكينة إقتصادية تسمح بخلق ثروات يتم ترجمتها بـ «دوزنة» إلى عملة من قبل المصرف المركزي وهو ما يسمح بثبات النقد.
السياسات النقدية تضع أهدافاً نهائية (ثبات الأسعار، الوظائف، النمو)، إلا أنها غير قادرة على التأثير المباشر على هذه الأهداف. من هذا المنطلق، هناك ما يُسمّى بالأهداف الوسيطة (الكتل النقدية، سعر الصرف، والتضخّم) التي تمتلك المصارف المركزية، بواسطة الإحتياطات الإلزامية وسعر الفائدة، القدرة على التأثير عليها مباشرة.
الأهداف الوسيطة هي محور السياسات النقدية وتكتسب أهميتها من خلال إعتمادها على أدوات تقليدية وأخرى غير تقليدية. عمليًا تنقسم هذه الأهداف إلى ثلاث فئات:
أولا – هدف الكتل النقدية: حيث يقوم المركزي بتطبيق سياسته النقدية عبر التأثير على هذه الكتل بالأدوات التي يمتلكها. إلا أن هذه الفئة تبقى محدودة النتائج نظرًا إلى التعقيدات التي تطال عمل الفضاء الإقتصادي والفضاء النقدي والآليات التي تتشابك فيما بينها.
ثانيًا – هدف سعر الصرف: حيث يقوم المصرف المركزي بتثبيت سعر الصرف مقابل عملة أجنبية (عادة ما تكون الدولار) أو مقابل سلة من العملات. وهناك نوعان من التثبيت: الأول تثبيت حسابي أو إداري (مثل الفرنك الفرنسي مقابل اليورو) أو تثبيت داخل هامش (مثل الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي) وهو ما يسمح بالمحافظة على مبادئ الإقتصاد الحرّ. ويأتي مجلس النقد ليُشكل حالة مُتطرّفة من تثبيت سعر الصرف مقابل العملة الأجنبية حيث يُمنع منعًا باتًا طبع العملة الوطنية تحت أي ظرف إذ لم يكن هناك من إحتياطي أجنبي في المقابل، مما يُحافظ على قيمة العملة، إلا أنه في نفس الوقت يمنع السياسة النقدية من مجاراة السياسة المالية للحكومة وفي حال كان هناك إضطرابات سياسية وأمنية – كالحالة اللبنانية -، فالمرجح أن يؤدي إعتماد مجلس النقد إلى إفلاس الدولة. الجدير ذكره أن مجلس النقد يُفقد البلد الذي يعتمدها الإستقلال النقدي حيث تتعلق الفوائد ببلد الإرتباط وبالتالي وبإختلاف الدورات الإقتصادية، يضرب الإقتصاد بشكل عنيف.
ثالثًا – هدف التضخم: وهو المعتمد من قبل معظم الإقتصادات الحرّة والمصارف المركزية الكبرى نظرًا لأنه يُشكل خياراً وسطياً بين التشدّد في التثبيت وترك العملة لأهواء الأسواق التي قد تكون مُتوحشة أحيانًا. عمليًا هذه السياسة تتطلّب الكثير من القدرات الإحصائية – الماكرو إقتصادية نظرًا إلى التعقيدات التي تطالها وهو ما يُصعّب عملية توقع التضخّم. الجدير ذكره أن التضخّم هو من أهم المؤشرات الإقتصادية والمالية والنقدية، فتضخّم عالٍ يقتل الإقتصاد (أكثر من ٢٪)، وتضخّم منخفض (أقل من ١٪) يقتل الإقتصاد أيضًا!
تنص النظرية الإقتصادية على أن العملة تعكس ثروة البلد، وبالتالي إذا كان الإقتصاد قويًا تكون العملة قوية ويأتي الثبات في النمو الإقتصادي ليلعب دورًا أساسيًا في ثبات العملة. فهذا النمو هو الوحيد الذي يُمكن ترجمته إلى عملة (من قبل المصرف المركزي) من دون أن يكون هناك تضخّم. وفي حال لم يكن هناك نمو إقتصادي فإن أي طبع للعملة يتحول تلقائيًا لتضخّم. للتذكير فإن الإرتفاع المُزمن بالأسعار يؤدي إلى التضخّم وغالبًا ما يأتي من فقدان العملة قيمتها ومن العمليات الإحتكارية – مرض الإقتصادات الحرّة.
وأما الإقتصاد الضعيف الذي لا يُسجّل نموًا إقتصاديًا (أو حتى انكماشاً) فتتدهور عملته ويرتفع التضخم. وهنا يبدأ المصرف المركزي بعمليات للسيطرة على سعر الصرف حيث يقوم باستخدام الأدوات التقليدية (الإحتياطات الإلزامية، وسعر الفائدة)، وإذا لم تعد تُجدي هذه الأدوات نفعًا يقوم بإستخدام أدوات غير تقليدية منها الإحترازية ومنها الهندسات المالية.
تنصّ الأبحاث العلمية على أنه في البلدان التي تعيش حالة من عدم الثبات السياسي والأمني، تكون كلفة تثبيت العملة على الإقتصاد أقل من كلفة تحريرها. وبالعكس في البلدان التي تعيش ثباتًا سياسيًا وأمنيًا، فتكون كلفة تحرير العملة على الإقتصاد أقل من كلفة التثبيت.
في لبنان وفي ظل الإطار السياسي والأمني والإقتصادي والإجتماعي، يعود الثبات النقدي إلى الواجهة مع تفلّت سعر الصرف بعدة أسعار في السوق منها ما هو صادر عن مؤسسات رسمية (سعر الصرف الرسمي، سعر المنصة، سعر المحروقات، سعر الدولار الجمركي…) ومنها ما غير شرعي وغير قانوني مثل سعر صرف السوق السوداء الذي عجزت الدولة عن إيقافه. وفي هذا الإطار، يأتي توحيد السعر ليُشكل الخطوة الأساسية في عملية إستعادة الثبات النقدي وبالتالي الإجتماعي. إلا أن هذا الأمر يتطلّب عددًا من الإجراءات التي لا يستطيع القيام بها إلا السلطة التي تمتلك حصرية القرار الإقتصادي – عنيت بذلك الحكومة. وأما في لبنان، فإن الأمر صار أوسع من قرار حكومي إداري ليصل إلى إتفاق سياسي جامع لجميع الطوائف دون استثناء لمواجهة الفوضى العارمة في البلاد، ومن بين هذه الإجراءات تحفيز الإقتصاد مع كل ما يواكبه من إستثمارات…، ضرب الإحتكارات والتهريب، حلّ مُشكلة الدين العام، إعادة هيكلة القطاع المصرفي بالتعاون مع المصرف المركزي، إعادة دمج لبنان في المنظومة المالية العالمية.
في الواقع إن أي حلّ للأزمة في لبنان يمرّ إلزاميًا بعملية إستعادة الثبات النقدي الذي أظهرت التجارب النظرية والعملية على مدى الأزمان إضافة إلى تجربة لبنان (وغيرها من الدول) أن الأمن الإجتماعي مُرتبط بشكل وثيق بالثبات النقدي.