درْبُ بكركي: بينَ العُشْبِ والشعب
يومها، قامَتْ جبهةٌ وطنيةٌ ضـدَّ الباشا قوامُها: المطران يوسف دريان والأمير شكيب أرسلان مع مختلف أقضية الجبل، وكانت خُطى الشعب تحـولُ دون نباتِ العُشْبِ (1).
وللصرح البطريركي تاريخٌ عريـق في مواجهة الوصايات والإحتلالات، ولا سيّما زمـن الطغيان العثماني، ومنذ أنْ أراد الباب العالي أنْ يضـمَّ لبنان إلى ولايات الدولة العثمانية وعيّـنَ عمر باشا حاكماً، وقـفَ البطريرك يوسف حبيش في وجهـهِ قائلاً: «نحن لا نتقـبَّل حُكمَ الأجنبي».
وحين انتفض البطريرك يوحنا الحاج رافضاً طلب «الفرمان السلطاني» للإعتراف بـه بطريركاً فقال: «حقوقنا سابقة لوجود السلاطين … ونحن أبناء البلاد ولا حاجة لنا لأنْ تعترفوا بـنا…».
وهكذا كان البطريرك الياس الحويك أبَ الكيان، الذي سئل لماذا تريدون لبنان الكبير فقال: لأننا لا نريد لبنان ذا وجـهٍ واحد بل نريده أنموذجاً للتنوع الفريد في العالم.
والبطريرك أنطوان عريضه راعي استقلال الوطن واستقلال جَـنى الأرض قد شـنَّ حرباً على المفوض السامي الفرنسي حرصاً على حريـة زراعة التبغ في الجنوب ، ضـدّ مشروع الإحتكار الفرنسي للتبغ زراعةً وصناعةً.
ومثلما أن البطريرك الحويك رهَـنَ أملاك الكنيسة لإطعام الجياع في الحرب العالمية الأولى بما في ذلك الكؤوس القربانية، هكذا رهـن البطريرك عريضه الصليب الذي على صدره ليطعم جياع الحكم التركي، حين كان رئيساً لأساقفة طرابلس (2).
وعلى خُطـى السلَف كان الخلف حريصاً على ثلاثية الهدف : الكيان والسيادة والوحدة الوطنية.
يـوم استُشهد سماحة المفتي حسن خالد، أمَـرَ البطريرك نصرالله صفير في 18 أيار 1989 بأنْ تُفـتَحَ أبواب الصرح البطريركي لتقبّـل التعازي ، وحين حضر وفـد نقابة المحامين للتعزية كتب النقيب في السجلّ: «نقدر المبادرة التي قـام بها غبطة البطريرك الماروني بتحويل دار مجـد لبنان إلى دار الفتوى لتقبُّـل التعازي بالمصاب الجلَل…».
البطريرك بشارة الراعي لَـنْ يتنكرّ للتراث الذي يجسّد مجـد لبنان ، فيما لبنان : المفكَك داخلياً ، والمحاصر عربياً، والمعزول دولياً ، يعاني إرتعاشَ الكيان، واهتزازَ السيادة، وانهيار الدولة ، والحكمَ على الشعب اختناقاً بالموت الأسود.
عندما تنطفيء بوارق الأمل بأهـل السلطة من أعلى إلى أدنى، وتفشلُ كلُّ وسائل انتعاش الأجسام المشلولة، لانتشال الوطن من الرُكام… «وشمشون» اللبناني يدمّـر أعمدةَ الهيكل حتى لو طمـرَ نفسه تحت رُكامـه.
فإنْ ظـلَّ دَورُ بكركي ودُوْرُ الإفتاء يقتصر على الصلاة في معبد الوثنيِّـين، فالوثنية يحكمها الشياطين، والشياطين لا تبشّـرُ إلاّ بجهّنم.
مِـنْ شأن البطاركة والمُفْتـين ورجالُ الدين، أن يقرعوا الأجراس أذاناً بهَـوْلِ الخطـر، حتى ولو كانت الدعوة على سبيل التهويل إلى تدويل مؤتمرٍ برعاية الأمم المتحدة، لعلّ الراقدين في الغيبوبة السريريّة يستيقظون حـول مؤتمر لبناني وأمّـةٍ لبنانية متحّدة تستجمع شَتاتَها المبعثر لإنقاذ لبنان من اللاّلبنان.
دور بكركي التاريخي يسقط إذا اقتصر على حقوق المسيحيين، والوطن الغريق يسقط إذا لم يحمل المسيحيون والمسلمون المجاذيف متضامنين.
كمثل أنْ يتضامن الأمير شكيب أرسلان مع بكركي في مواجهة مظفرّ باشا، ومزارعو الجنوب مع البطريرك عريضه في مواجهة المفوض السامي الفرنسي، وقـادةُ الطوائف مع البطريرك صفير، الذي حـوّل دار مجـد لبنان إلى دار الفتوى.
إذ ذاك، لا ينبُـتُ العُشْـبُ على دربِ بكركي، ولا على دربِ لبنان.
وفي العصر الجاهلي، حيث يكون العشبُ والماء ، يكون الغـزو.