أوقفوا طلب الخوّات: السعودية هي العروبة أوّلاً
محمد بركات -أساس ميديا
هناك تعميمٌ يستخدمه بعض محبّي المملكة العربية السعودية، في الردّ على من يهاجمونها أو يسيئون إليها، يمكن اختصاره بالتالي: “أنظروا إلى ما قدّمته إلى لبنان من مال ومساعدات. تذكّروا كيف عمّرت بلداتٍ وقرىً دمّرها الاحتلال. هاكم سجّلات المليارات التي وهبتنا إيّاها. وارحموا 200 أو 300 ألف لبناني يعملون في مؤسساتها”.
كلّ هذا صحيح، وحقيقيّ، لكنّه ظالم وقاسٍ.
من الظلم، ومن الجور، أن نطلب من سياسي أو طرف أو شعب، أن يحترم السعودية، أو أن يقدّرها، لمجرّد أنّها تدفع المال للدولة اللبنانية، أو توظّف لبنانيين في بلادها. فالاحترام واجبٌ قبل المال، ومن دونه.
تخيّلوا مثلاً أن نشتم التونسيين، أو المغربيين، أو المصريين، أو الشعب الليبي، أو غيره من شعوب العرب، أو حتّى من شعوب أوروبا وأميركا، فقط لأنّهم لا يدفعون لنا المال. أو أن نشتم اليونانيين مثلاً لأنّهم لا يوظّفون 100 ألف لبناني في مدنهم.
من أرسى هذه المعادلة؟ ومن عمّم هذه الفكرة؟ من وضعنا في منزلةٍ بين الشحّاذين الذين تصادفهم على الطريق، فيدعون لك بطول العمر، وإذا لم تنقدهم ليرةً أو ديناراً، يبدأون في شتمك ويتمنّون لك الموت؟ وبين قطّاع الطرق الذين يفرضون الخوّات على العابرين، كي لا يؤذونهم؟
لطالما كان اللبنانيون شعباً مضيافاً، ومرفأً وممرّاً، و”صلة وصل”، بين الشرق والغرب، على ما تقول الأسطورة وعلى ما نعلّم أطفالنا في الكتب المدرسية. ولطالما كان اللبنانيون إخوان العرب، فكنّا جامعتهم ومستشفاهم ومطبعتهم ودور نشر كتبهم. ولطالما كنّا روّاداً وأصدقاءً. وكان رأسمال لبنان هو الصداقة والعلاقات العامة وتقديم الخدمات، مجبولةً بالمحبّة والكلمة الطيبة. ولطالما استضفنا المعارضين العرب الهاربين من الأنظمة القمعية.
لم نكن يوماً شحّاذين، قبل حلول شيوخ الحرب اللبنانية أمراء على السلم، فراحوا يأكلون أخضر الدولة ويابس الثروات، وبدأنا في رحلات تسوّل مالي لا عدّ لها ولا حصر.
ودائماً، مثل دول العربية كثيرة، كانت السعودية ملجأ لبنان واللبنانيين، هي والإمارات وقطر والكويت والبحرين ومصر وليبيا، وكلّ الدول التي كانت تمدّ يد العون والمال والمساعدة.
بالطبع كان للسعودية وللكويت النصيب الأكبر من مساعدة دولتنا وشعبنا. ولا نعرف من الذي أقنعنا منذ ذلك الحين بأنّ المملكة مجبورة بأن تصرف المليارات على طبقة سياسية لا تشبع من نهب ولا تسمن من فساد… حتّى جاء اليوم الذي نشتم المملكة إذا لم تدفع المال لعتاة السارقين وجهابذة النصب والاحتيال من السياسيين والقادة المذهبيين.
السعودية هي العروبة أوّلاً. قبل المال وبعده، ومن دونه. السعودية هي التي رعت اتفاق الطائف فأوقفت الحرب. هي التي ساعدت اللبانيين على التصالح. هي التي كان دوماً أمراؤها مغرومين بجبالنا الباردة، ومعجبين بتفوّق أبنائنا في التعليم والطبّ والمهن الحرّة وغيرها. هي التي لم تموّل حزباً ولا ناصرت فصيلاً لبنانياً على آخر، ولا حرّضتنا على قتل بعضنا البعض، كما فعلت أنظمة أخرى، قريبة وبعيدة. وهي التي رفضت مواجهة التمدّد الإيراني في بلادنا بالميليشيا والسلاح، وذهبت إلى مواجهة التطرّف بالتوعية وفتح باب التوبة بالداخل السعودي، وبدعم الدول المركزية وجيوشها الرسمية في الخارج العربي.
السعودية هي عمقنا العربي، في مواجهة أطماع الاحتلالات المذهبية. هي التي تواجه مشروع التطرّف السنّي الأخواني، الآتي من تركيا وغيرها، وتواجه في الوقت نفسه التطرّف الشيعي الآتي من إيران. هي دولة محورية نراهن عليها لنكون معها في مشروع العروبة.
السعودية بدأت دولة دينية ثم جاء النفط فصارت قطب اقتصادي ومالي، وفتحت لها أبواب العالم باعتبارها قوّة سياسية إقليمية كبرى يحسب لها ألف حساب في القرارات السياسية في المنطقة والآن تتجّه نحو السياحة، الداخلية أولاً وبعدها السياحة الخارجية.
السعودية لم ترسل إلينا متفجّراتٍ ولا وزراء على شاكلة ميشال سماحة يوزّعون القتل والتدمير فيما يأكلون الصبّير. ولا اغتالت خيرة شبابنا. ولا احتّلتنا بالعسكر. كما فعلت دول كثيرة.
السعودية هي مملكة عربية، تحمي العروبة حيثما استطاعت إلى ذلك سبيلا. تحاول قيادتها إبعاد شبح التطرّف، ومنع المتطرّفين من الوصول إلى الحكم، في كلّ بلد ممكن. والسعودية هي مشروع الخروج من سيطرة التطرّف المذهبي في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وهي دولة يحاول وليّ عهدها الأمير محمد بن سلمان أن يفصل، ما استطاع، سيطرة المتديّنين عن مفاصل أساسية في الدولة، لصالح التطوّر المدني، ولصالح دولة مركزية قوية.
كان سهلاً على السعودية تمويل لبنانيين ليقتلوا إخوانهم، لكنّها رفضت وحيّدت نفسها، حين غضبت، وابتعدت قليلاً كما يفعل المحبّون حين يغضبون من أحبابهم.
قد يصعب على بعض المثقفين والكتّاب والناشطين، وعلى يساريين، وحتّى على بعض الليبراليين، وبالطبع على مناصري محور الممانعة وإيران، أن يعترفوا أمام أنفسهم أنّ الشعب السعودي عموماً، وقيادته بشكل محدّد، وبقية شعوب الخليج وقياداته، أخذوا صورة الخليج العربي ودوله إلى متن الحضارة العالمية، فيما نحن نتقهقر إلى الوراء في سلّم الحضارة، حتّى بتنا نصف شحّاذين ونصف قطّاع طرق.
فمدن الخليج، دون استثناء، المليئة بناطحات السحاب والمشاريع الخمسية والعشرية، باتت تتوجّه دون تباطؤ إلى اقتصادات لا تعتمد على النفط. وربّما لا يعرف كثيرون أنّ جزءاً كبيراً مما نستهلكه يومياً، من سلع غذائية، مصنوعة أو معبّأة في السعودية. التي هي واحدة من مجموعة G20، وتضمّ الدول العشرين الأكثر نموّاً وتقدّما، وتشكّل وحدها 80 % من الاقتصاد العالمي، وثلثي سكّان العالم، وثلاثة أرباع حجم التجارة العالمية.
اليوم، السعودية في إجازة لبنانية. كأنّها نأت بنفسها. لكنّها لا تؤذي لبنان. فقط أعرضت عن دعم وتمويل سلطة معادية لها، تحمل عنصرية عميقة، ضدّ كلّ ما هو عربي. تارةً باسم “حلف الأقليات” بمواجهة الأكثرية العربية، وطوراً باسم “حلف المقاومة”، وهو اسم الدلع لمشروع إيراني هدفه احتلال المنطقة العربية، والسيطرة على مكّة المكرّمة، بعنوان “فلسطين”. وكلّ هذا من خلال مجموعة لبنانية عنصرية تحمل نزعة فوقية، مجبولة بمذهبية مقيتة، ومتوّجة بغباء مدقع وبانتهازية شديدة، هي المجموعة العونية وحلفائها “المشرقيين”. وكلّ هؤلاء يشاركون في أذية المملكة، ويتحالفون مع من يقصفون المدن السعودية، ويدعمهم ويحالفهم من يشتم شعب المملكة وقيادتها ليلاً ونهاراً.
السعودية ليست مجبرة أن تموّل حكومة في عهد ميشال عون أو غيره كي يحترمها السياسيون والمواطنون اللبنانيون. وليست مجبرة أن توزّع علينا الملايين كي نحترم صداقتها. تماماً كما لا نقبض من الفرنسيين لنحترمهم، ولا نشحذ من الألمان ليتجنّبوا أذيتنا، ولا نتسوّل على أبواب الكنديين لنقدّرهم…
واجبٌ علينا احترام كلّ الشعوب الصديقة، دون أن نمنّنهم، كما لو أنّنا نقبض ثمن الكلمة الطيبة. هذا معيبٌ بحقّنا أوّلاً، وبحقّ السعودية ثانياً. وهذا ليس من الأخلاق ولا من الأدب.
فنحن لسنا قطّاع طرق، لنأخذ خوّاتٍ من الشعوب المجاورة والقريبة، كي نكفّ شرورنا عنهم. والذي يريد وضع لبنان واللبنانيين في هذا الدرك الأسفل، ليس منّا ولسنا منه.
نحن شعبٌ عربيّ، وواجب علينا أن نحترم كلّ شعب وقيادة لم توجّه لنا إساءة ولا أذيّة. ومن العار أن نكون قطّاع طرقٍ أو شحّاذين ومشارطين.