تلقيح النواب: مسألة قِيم أوّلًا
قاسم يوسف – أساس ميديا
في العالم الحر تجاربُ ناصعةُ البياض. أخبارٌ شهيّة تستقر في منتهى أسماعنا وأبصارنا. حكاياتٌ مذهلةٌ عن الدول التي يسمو فيها الإنسان حتى يصير صِنوَ القداسة. وتتعاظم فيها المسؤولية حتى تستحيل مُدهشةً ومزلزلةً وهائلة. كل ذلك وأكثر، يحدث في البلاد التي ترفع كرامة الإنسان فوق ناصيتها. ثم تترك للعالم برمّته أن يتمعّن ويدرك ويفهم. هكذا أخبرنا وزير الطاقة في اليابان، عندما انحنى لثلث ساعة متواصلة أمام شعبه، وذلك اعتذارًا عن انقطاع الكهرباء. كذلك فعلَ الحياء فعلتَهُ برئيس الأركان في الجيش الإسباني، حيث بادر فورًا إلى تقديم استقالته عقب كشف استغلاله لمنصبه ونفوذه، بغية الحصول على اللقاح المخصص لكورونا قبل الفئات التي تحظى بالأولوية المطلقة.
هذه معاركُ قِيَم. قطعةٌ بديعة من أخلاق الأمم. صورة مكتنزة من الوضوح والاستقامة والنبل. هذه ليست مساحة للاستعراضات الشعبوية. ثمّة في إسرائيل، أيها السيدات والسادة، رئيس وزراء زُجّ في السجن كالسارقين والقتَلة وشذاذ الآفاق. زُجّ لأنه تجرّأ على الدولة وعلى الناس وعلى المال العام، وأخلّ بمسؤولياته الجسام كقدوة أخلاقيّة ومعنويّة واعتبارية، وكواحد من أعمدة النظام الذي لا يُمكن أن يستقيم ظلّه ما دام أعوج.
هي عشراتٌ، بل مئاتٌ من القصص المماثلة التي ما برحت تستفز في عميق ذواتنا، ذاك العطش والحسد الأبدي لدولة سويّة على سجيّة الدول العظام. جرّب أميرنا الوسيم فؤاد شهاب أن ينقلنا ذات مرة إلى حيث الضوء، وقد حاول جاهدًا بلا هوادة، وإلى جانبه ثلّة من الرفاق المُغمّسين بالشرف. ثم رحل وترك لنا مسيرة مضيئة، ودولة فتيّة، وزوجة مديونة لدكانة الحي.
حاول أيضًا الياس سركيس. أحكم حكماء الجمهورية منذ طلع عليها الشمس. وحاول غيره وغيره وغيره. لكنّ هذه البلاد ممنوعة من النور. ممنوعة من الاستقامة. ممنوعة من الأحلام.
صاحب شركة “فايزر” العملاقة. الرجل الذي يجلس فوق الامبراطورية التي صنعت لقاح القرن. ينتظر دوره. يقف في صفّ الأولويات الذي رصفته الدولة. حاله كحال أترابه من عموم المواطنين. لا مميزات ولا توصيات ولا محاولات للالتفاف على الأخلاقية القصوى التي جعلت من الناس، كل الناس، سواسية أمام النظام كأسنان المشط.
عندنا يُجاهر النائب بقدرته. يقاتل كمن يتوثّب نحو ابتلاعنا، فقط لمجرد اعتراضنا ونفورنا. وزير الصحة يتحدث عن قرار سيادي اتخذه لسرقة اللقاح من أصحابه، ووضعه في أحضان النافذين. ونوابٌ يتوارون تارةً خلف قلة حيلتهم، وطورًا خلف رفع أصواتهم بوجه كل منتقد أو مُصوّب. وكأنّ هذه البلاد استحالت ساحةً يجنّ فيها جنون البشر، بدل أن يبادر هؤلاء جميعًا إلى تلاوة فعل الندامة إزاء ما اقترفته أيديهم.
هي مسألة حياء. قبل أن تكون مسؤوليةً وطنيةً وأخلاقيةً وإنسانية. رئيس الجمهورية فعل فعلته أيضًا تحت جَنح الظلام، وإلى جانبه جيش من المستشارين والموظفين والمقربين، وكان الأجدى به، كرمز للبلاد، وكأبٍ يدّعي أبوّة الجميع، أن ينتظر دوره، وأن يذهب إلى موعده في الأمكنة المخصصة للتلقيح، وأن يقول لكل الناس، بالفعل والممارسة، إنه منهم ومثلهم ومعهم وإلى جانبهم، كواحد منهم، لا كمسؤول يحظى بمعاملة استثنائية أو خاصة.
كذلك فعل قبلهم سعد الحريري، الذي جلب معه مئات اللقاحات من الإمارات، ووزعها على فريق عمله وعلى بعض السياسيين والأصدقاء والمقربين إليه. وبعضهم في عمر الشباب، بينما كان البلد برمّته، وفي مقدمته الفريق الطبي والتمريضي، يقف على قدم واحدة بانتظار وصول أولى جرعات اللقاح إلى لبنان، ناهيك طبعًا عن الناس المحبوسة في بيوتها والممنوعة من ممارسة أشغالها وفتح أبواب أرزاقها.
بعد هذا السيل المستفيض من التذاكي واللامسؤولية التي لامست حدود القرف، أستعير من مقالة للعملاق ميشال أبو جودة هذه الخلاصة بالتصرّف: على المتعاملين مع هذا النظام أن يُمسكوه بورقة، لأنّ ماء الحياء لن يكفي لغسل أيديهم.