أنيس النقاش… حياة حافلة بالسجن والسفر
أسدلت “كورونا” الستار على حياة صاحب الأفكار الثورية المترامية على النضال العالمي والمتنوّعة بين العلمانية والاسلامية والعروبية، وصاحب الكلمات المنمّقة التى يحسن اختيارها باللهجة البيروتية. دخل النقاش، وهو باحث سياسي متخصص بالشؤون الإقليمية، العناية المشددة في أحد مستشفيات دمشق قبل أيام، فأقعده الموت عن فائض حماسه في نصرة القضية الفلسطينية من دون أن ترديه البندقية التي حملها يافعاً وطاف بها بين بيروت وعمان وفيينا وباريس. عايش كبار القادة في منظمة التحرير وإن كان الأقرب إلى خليل الوزير (ابو جهاد) الذي أخذ عنه شغفه بالعمل الامني والعسكري، واستطاع أن يكون نظيراً وندّاً وأستاذاً بالصداقة لكل من “كارلوس” وعماد مغنية.
إستقرّ به الحال في السجن الباريسي لمدة عشرة اعوام إثر محاولة اغتيال رئيس الوزراء الايراني في عهد الشاه شاهبور بختيار. كان له الدور في نقش العلاقة بين الثورتين الفلسطينية والإيرانية وتمكن ان يلعب دور الوسيط النزيه للطرفين وأن يكسب ثقة ومكانة لديهما قل نظيرهما.
فرض أفكاره الثورية بثقة مفعمة بالرضى والمصالحة مع الذات وفرض مساحة جلية من الاحترام على خصومه، الذين اختلفوا معه في الرأي والتطلعات واقروا له بالاحترام لما يؤمن.
مهندس الديكور الذي كان يتمنى لو درس الهندسة الزراعية، كان شديد الإعجاب بأفكاره وشديد اليقين بصوابية ما يؤمن ويفكر، بنى شخصية جمعت بين العلمانية والدينية بقالب من الخصوصية التي لم يستطع سواه أن يصنعها من اقرانه وأبناء جيله، فطغت عقيدته على ثقافته وثوريتها على بندقيته. أنيس النقاش الذي لا يبعث على الاطمئنان بلا جهد، لا يطمئن بسهولة للآخر. شخصية من زمن النضال المشغول بالاحلام التي تفوقت بتاريخها على مستقبل حضورها.
أمضى حياته، إما في السجن او على سفر، واحتلّ العمل الثوري جلّ اهتماماته ودفع حياته العائلية ثمناً وهو الذي تحسّر لكونه لم يقضِ مع ابنه ما يكفي من العمر. تأثر بفكر أنطون سعادة من دون أن يكون سورياً قومياً، ويعتبره من أهم المفكرين في منطقتنا لكونه درس علم الاجتماع المشرقي في سوريا وتحدث عن الخطر الصهيوني والوضع الطائفي على أكمل وجه. لم ينخرط بأي حزب، فكانت “فتح” الحركة السياسية الوحيدة التي انتسب اليها، من باب المساعدات الانسانية وهو في السابعة عشرة من عمره. تناهى لمسامعه أن سيدة تعرضت للتعذيب على يد المخابرات لأن أبناءها من الفدائيين فقصد مخيم اللاجئين الفلسطينيين مستطلعاً ومستغرباً كيف يحصل ذلك في بيروت. هناك تعرف الى شباب فلسطينيين وانتقل معهم الى الاردن ثم نصحوه بالعودة ورفاقه الى لبنان لتنظيم أوضاعهم، وبعد شهر تلقى اتصالاً يبلغه انه اصبح عضواً في فتح ودخل في تنظيمها الطلابي.
ومن خلال “فتح” بدأت علاقته بالثورة الايرانية. كان له دور هام في التنسيق بين قيادة الثورة الفلسطينية وقيادة الثورة الإيرانية، ونسج علاقات واسعة مع كوادر الثورة الإيرانيّة، تدريباً وتعاوناً أمنياً وعسكرياً. هو الذي نصح ابو جهاد قائلاً: “الامبريالية تخطط للشمول وعلينا ان نخطط للشمول”، فسمع نصيحته وأخذ في دعم حركات المعارضة في ايران وتركيا. يوم كانت التظاهرات تعمّ شوارع ايران كان يواكبها من داخل غرفة العمليات في بيروت ويتلقى الاشرطة المسجلة عن الثورة ويوزعها. يقول ان الثورة الايرانية لم تسقط الشاه فقط بل أدت الى ربط نزاع مع الولايات المتحدة وصنعت نموذجاً يصارع هذا النظام العالمي. دفاعاً عن الثورة، قصد باريس عام 1980، لاغتيال بختيار، وهو آخر رئيس وزراء في عهد شاه إيران محمد رضا پهلوي، وفيما نجا الأخير بأعجوبة، حُكم على انيس النقاش بالسجن المؤبد لكنه سُجن لمدة 10 أعوام وأفرج عنه بقرار عفو وقّعه فرانسوا ميتران عام 1990. نفّذ خلال سجنه ثلاثة إضرابات عن الطعام، دام آخرها 130 يوماً، احتجاجاً على عدم شموله بقرار عفو عام، رافضاً إفراجاً لا يشمل رفاقه.
طوال فترة سجنه لم يدرك الفرنسيون ان من كان في سجونهم هو “خالد” اللبناني، شريك كارلوس في عملية فيينا (1975)، حيث احتجز وزراء النفط في منظمة “أوبك” بالاشتراك مع مجموعة وديع حداد في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان الهدف الحصول على دعم الثورة، عبر طلب فدية قيمتها عشرة ملايين دولار (كتاب أسرار الصندوق الأسود، لغسان شربل، دار الريّس). عارض بشدة التورط في الحرب الأهلية في لبنان التي أصيب في يوم انطلاقتها 13 نيسان 1975. كتب إلى القيادة محذراً من كوارث الانخراط في هذه الحرب. يقول: “كل الناس غرقوا في القتال، وكنت أسعى إلى توجيه البنادق إلى إسرائيل فقط”. عند الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1978، انتقل إلى الجنوب مشاركاً في التصدي للعدوان. انفصل عن “فتح” وساهم في تأسيس سريّتين لبنانيتين في كفرشوبا وبنت جبيل، أصبح أفرادهما جزءاً من قيادة المقاومة لاحقاً، مثل عماد مغنية. سنوات عمره السبعون (مواليد بيروت 1951) لم تدفعه الى التقاعد فاستمر في خدمة مشروع المقاومة من موقعه كمنسق لشبكة “الأمان” للدراسات الاستراتيجية، من أجل “تبادل المعلومات والأفكار وإعداد خلاصات سياسية وأمنية، لعرضها على أصحاب القرار، ولا سيما في قيادة المقاومة”.