اللواء
أسوأ ما في المشهد، مع لفظ سنة الـ2020 أنفاسها، التي سيقت بحقها شتى النعوت، هذه «البهورة اللبنانية»، ليس على مستوى النّاس البؤساء، طيبين كانوا أم غير طيبين، لبنانيين، أم متحدرين، أم مجنسين، أو من جنسيات غير لبنانية، ويستولدون هذه الأرض، الجميلة، وكأنها أوطانهم، أو هي لهم ذات ليلة داجية، بل على مستوى نواب، أقطاب، وعلى مستوى وزراء، بينهم المستقيل، الغارق في قرفه (ما خلا الوزير الذي استقال ربما عن سابق تصوّر ناصيف حتي)، وبينهم المستقيل، الذي ما يزال ينظر إلى نفسه، أو تنظر الى نفسها، بعينين دعواجين، وكأنه أو كأنها «نصف الدنيا» وخشبة الخلاص من وضع قائم، ومستقبل ممعن في القتامة والظلمة.. ومنهم السابق، أو الأسبق، الذي تضاهي به كتلته وزراء الأرض قاطبة، أو يزعم زعيمه، انه واحد من الاقداس البشريين النادرين، الذين وان حامت حولهم الشبهات، فهم عُرضة للافتراء، والارتياب المشروع او غير المشروع لخصمهم، أيا كان، أو لأي جهة انتمى.
أمّا عن أحزاب الطوائف، والذين يسمون بكتب السياسة، وبأعراف الأمم ميليشيات (Les milices).
والميليشيا، في المعاجم، تعني قطعاناً من الشرطة، أو تقوم مقام القوى النظامية، أو تقوى سلطتها على سلطة القوى النظامية أياً كانت، ويطلق على العضو المنتسب إليها اسم، ميلاشياوي أو ميلاشياوية (إن كانت أنثى)..
دلت وقائع الحياة العمومية، ان إدخال «ميليشيات الحرب» وفقاً لما ارادته القيادة السورية، بعد اتفاق الطائف، كشكل من اشكال بناء الدولة، على انه أسلوب لم يكن صائباً أو ناجعاً.. تمكنت الميليشيات الطائفية، على الرغم من إسقاط الاتفاق الثلاثي (القوات اللبنانية بقيادة ايلي حبيقة، التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط، وحركة أمل بزعامة نبيه بري) من العودة بقوة إلى التقاط مفاصل النظام، مع تبدلات في الصورة، من الثلاثي إلى الرباعي، فالخماسي (تيّار المستقبل، والتيار الوطني الحر)، وربما إلى سداسي (جهات كثيرة تنظر إلى حزب الله على انه ميليشيا أيضاً).
شاهدوا المشهد، كما هو، بدون نظارات، أو إيماءات أو أي وسيلة من وسائل «تطويع الوقائع»:
1- عدّة أسعار لصرف الدولار الأميركي في سوق القطع: 1515، 3900، 8100، 8500، وهناك أسعار أخرى يعرفها المصرفيون، وحراس الهيكل، والعالمون بالسرّ، من ميليشيات ومَن قام مقامهم.
2- أموال المودعين: لكل مصرف شرعته، يمنح السحوبات، أو يمنعها، يحوّل المودعين إلى مطايا لجلب الدولار، أو هدره، بتبخير اموالهم المودعة، عندما يعرض استعادتها بالليرة، عبر المنصة، أو ذكاء أمين الصندوق.
في أي بلد في العالم، يحدث الذي حدث، وكأن شيئاً لم يكن؟! تستخدم الشرطة ضد المودع، المسلوب حقه (مع ان القاعدة العقابية معروفة مجتمعياً: مَن أخذ مالك خود روحه) فالمال يعادل الحياة نفسها، وأكثر.. لا شيء يهتز، ألم تتمكن الميليشيا من أصغر موقع إلى أكبر موقع من التصرف كما يحلو لها بأموالها، تهريباً أو تسحيباً أو ما شاكل.
أخطر ما في المشهد المالي، ان قرارات حاكم مصرف لبنان وتعاميمه، أصبحت أكثر من سيادية، لا أحد بإمكانه فعل شيء.. فالقرار له، أما سائر المؤسسات فمسألة فيها نظر.. من هيئة تحقيق، إلى مجلس مركزي، ونواب حاكم.. ومَنْ يحزنون، ومَن لا يحزنون!!
2- في المشهد التشريعي، أخطر ما في المسألة، تجاوز التشريع، وتطبيق لا حول له ولا قوة، في ما يتعلق بامتطاء الدستور، لغايات ليست ملحة، ولا معنى لها، وتعطي انطباعات، عن عشوائية مَن يمسك بالقرار.. فمواد الدستور، تساق، كما يساق النّاس إلى الحروب والشحن الطائفي، أو الشرذمة.. ومع ذلك، لا بأس، تابعوا الموقف.. ماذا يعني إصدار قانون، ولا إمكانية لتطبيقه.
كيف يمكن الكلام عن سلطات في بلد لا يحترم تطبيق قوانينه.. خذ مثلاً: قانون الدولار الطالبي، والأسباب التي اوجبته إلزام المصارف، قانوناً بتحويلات بالدولار، من حسابات ذوي الطلاب الذين يدرسون في الخارج، لأن الفاقة تُهدّد مصير أولادهم في الجامعات الأجنبية، من الطرد إلى عدم السماح لهم بالبقاء.. يتظاهر الأهالي امام مصرف لبنان، لحث حاكمه من الضغط على المصارف، يصدر التعاميم، ولا شيء منها، يُطبّق، على الرغم من الوعد، الذي قطعه رئيس الجمهورية لوفد من أهالي الطلاب، الذين يعودون إلى الشارع اليوم، بعد جولات وصولات، ووعود إن لم تكن عرقوبية، فهي عصية على التنفيذ.
والسؤال: كيف يمكن لمصارف ان تعطي بيد (أي التحويل) ما اخذته بيد، من جيوب المودعين، واموالهم التي تكدست في المصارف، عبر سنين أو أشهر أو أيام؟.
في الساحة التشريعية إياها، أقر المجلس في الجلسة الأخيرة قانون تحريم وتجريم التحرش الجنسي، بمبادرة من نائبة صور عن حركة أمل عناية عز الدين.. هل سمعتم ما قالته السيدة النائبة عن أن «ثقافة الحقوق والتعاطي مع القانون مفقودة».. وقانون تجريم التحرش، يحتاج إلى مواكبة مجتمعية وقانونية حقوقية.
لا حاجة لايراد المزيد.. فالتشريع ليس لمعالجة مشكلة، بل لإضافة مشكلات، وتراكم خطير في النظرة السلبية إلى القانون ومفاعيله.. وبالتالي انعدام الثقة بالدولة، أياً كانت، دولة قانون أو دولة ميليشيا؟!
3- على جبهة القضاء، حدث ولا حرج.. وزيران يواجهان قاضٍ خارج المنصة القانونية.. وزير يعلن على رأس السطح، وعلى «صنوبر بيروت» أنه لن ينفذ أي قرار قضائي بإلزام رئيس حكومة، ووزيرين من المثول امام قاضي التحقيق في ما نسب إليهم في قضية انفجار المرفأ، في 4 آب 2020.
تُسارع قاضية إلى الادعاء على مسؤول أمني كبير وضابط أمني مسؤول.. وتشتبك الصلاحيات مع التحقيقات والتوقيفات وكل يغني على ليلاه.
والسؤال ما هذا العبث بدولة قامت قبل ذهاب الانتداب الفرنسي، وطبقت على هذا النحو أو ذاك قوانين، وأجرت انتخابات، وشكلت حكومات.. واحدثت في الستينيات ما يمكن وصفه «بالمعجزة اللبنانية» من باب الاقتصاد، وازدهار البلد، وقوة عملته الوطنية الليرة.
4- وفي المشهد أيضاً.. تجتمع لجنة الكورونا، أطبية كانت أم صحية، أم نقابية، أم أي شيء آخر، لتقرر ماذا يجب فعله، إزاء تطوّر الخطة المتعلقة بفايروس كورونا، الاصيل والمتحوّر (مع وصول أوّل إصابة من بريطانيا). تتخذ القرار بالاقفال مثلاً.. يتغيّر القرار بقرار من فوق، حزبي، رسمي، وزاري..
يتعاظم المشهد الالتباسي، على صعيد كيفية الإجراءات، وتتحكم بالقرار: حسابات الربح والخسارة، والعلاقات الخارجية (معظمها مقطوع) أو على الأقل المفيد منها..
ويتأرجح النّاس ينتظرون، ماذا هم فاعلون، مع الإشارة إلى ان قوة الميليشيا تحول في غالب الأحيان من تطبيق الإجراءات، التي تقتصر على الذين يلتزمون بالقانون اصلاً، وقبل أي شيء آخر.
5- وفي خضم عام ونيفّ من التأزم، كان الفراغ السلطوي، سيّد الموقف، كيف تدار الدولة؟
من الثابت ان الحكومة، هي الأداة التنفيذية لكل ما يتعلق بانتظام الحياة العامة، سواء ما يتعلق بعمل الحكومة أو سائر المؤسسات..
صلاحيات الحكومة منصوص عليها في المادة 65/د: تناط السلطة الاجرائية بمجلس الوزراء، وهو السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة، ومن الصلاحيات التي يمارسها:
1- وضع السياسة العامة للدولة في جميع المجالات ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية واتخاذ القرارات اللازمة لتطبيقها.
2- السير على تنفيذ القوانين والأنظمة والاشراف على أعمال كل أجهزة الدولة من إدارات ومؤسسات مدنية وعسكرية وأمنية بلا استثناء.
3- تعيين موظفي الدولة وصرفهم وقبول استقالتهم وفق القوانين.
إلى آخر البنود 4 و5، وهي في غاية الأهمية.
السؤال: هل يمارس مجلس الوزراء صلاحياته هذه؟ وإذا كان الجواب يقتضي وجود مجلس للوزراء أولاً، فإن السؤال المتفرع: هل كان مجلس الوزراء يمارس صلاحياته، قبل استقالة الحكومة الحالية، وحتى في الحكومة السابقة، التي كان يرأسها الرئيس المكلف اليوم، سعد الحريري، قبل انتفاضة 17 ت1 من العام الماضي.
المسألة، تتعدّى تأليف حكومة، أو اتخاذ اجراء من هنا أو هناك، أو تشريع في غير وقته أم لا.. المسألة تتصل بكيفية العودة إلى الانتظام العام، على ترتيب وتنسيق ونظام أولويات.
اقترحت «القوات اللبنانية» ومعها حزب الكتائب، وجهات في الحراك متعددة، مسألة الانتخابات النيابية المبكرة، لدحر السلطة القائمة، عبر افقادها مشروعيتها في مجلس النواب، وإن كانت المشروعية الشعبية انهارت مع انهيار «نظام الستاتيكو» الذي وفر للطبقات الميليشاوية القبض على السلطة.
أفقد المجتمع الدولي، مجموعة العشرين، فرنسا والاتحاد الأوروبي، وغالبية الدول العربية، الميليشيات الحاكمة المشروعية، في أي شيء..
وجاء اقتراح حكومة بلا أحزاب، ومن اخصائيين، منتهى الجدية، في التعامل مع الوضع الميؤوس منه.
تمردت الميليشيات الحاكمة، بكل تياراتها وطوائفها، واحزابها واقطابها على «حكومة المهمة».. بأشكال وأساليب مفضوحة..
الآن، المهمة الآن، وقبل فوات الأوان: إفقاد الميليشيا مشروعيتها، وإعلان لبنان دولة بلا قانون ومؤسسات.. حتى تطرد الطبقة العفنة عن سدة المسؤولية، أو تقصى قهراً وبأي شكل من الأشكال.
الوسوم
وقف الانهيار
newsadmin
106 5 دقائق