استعدّوا لانهيار الضمان الاجتماعي
لم يتم البت حتّى اللحظة بالآليّة المتكاملة لترشيد دعم استيراد الدواء، لكنّ الصيغ المطروحة اليوم تتحدّث عن تسعير أدوية الصحّة العامة التي يقل ثمنها عن 70 ألف ليرة وفقاً لسعر صرف المنصّة، أي 3900 ليرة مقابل الدولار، ما يعني زيادة أسعار هذه الأدوية مرتين ونصف المرة. أما أدوية الأمراض المستعصية والمزمنة، وأدوية الصحة العامة التي يفوق ثمنها 70 ألف ليرة، فيفترض أن تتقلّص نسبة دعمها من 85% إلى 80%، أي أنّ مصرف لبنان سيؤمّن 80% من ثمنها وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم (1515 ليرة دولار)، بينما سيكون على المستوردين تأمين 20% من كلفة الاستيراد من دولار السوق السوداء، ووفقاً لسعر صرف هذه السوق.
باختصار، نحن مقبلون على ارتفاع كبير في فاتورة الدواء فور الدخول في مرحلة ترشيد الدعم الآتية لا محالة. أمّا السؤال الأبرز، فبات يتعلّق اليوم بمصير المؤسسات والصناديق الضامنة التي ستتحمّل جزءاً كبيراً من هذه الكلفة، خصوصاً الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي الذي كان يعاني أساساً من تدهور كبير في وضعيته الماليّة قبل الدخول في هذه المعمعة. مع العلم أن أموال هذه الصندوق تمثّل اليوم مصدر الضمان الصحّي لأكثر من مليون ونصف المليون مستفيد، كما تضمّ جنى أعمار مئات آلاف اللبنانيين، كونها مقتطعة من رواتبهم لادّخارها، كي تكون تعويضات نهاية خدمتهم بعد سنين طويلة. بمعنى آخر، ثمّة كارثة إجتماعيّة ومعيشيّة كبيرة على الأبواب، عنوانها الأساسي وضع الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي.
قبل كل هذه التطوّرات، لم يكن الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي على ما يرام. فوفقاً لأرقام الصندوق نفسه، بلغ العجز المتراكم في فرع المرض والأمومة نحو 4273 مليار ليرة، وهو مبلغ ضخم يوازي نحو ثلث الأموال الموجودة في فرع نهاية الخدمة، التي تمثّل بدورها أموال تعويضات نهاية الخدمة المدّخرة، والمقتطعة من رواتب المضمونين شهريّاً.
بالإضافة إلى ذلك، عانى الصندوق أساساً من انكشافه الكبير على مخاطر الدين العام، خصوصاً بعد أن وظّفت إدارة الصندوق ما يقارب نصف تعويضات نهاية خدمة في سندات الخزينة بالليرة اللبنانيّة. كما هناك ما يقارب 366 مليون دولار من الأموال التي ادّخرها الصندوق بالدولار الأميركي في النظام المصرفي، والتي لا يتم سحبها اليوم إلا بالليرة اللبنانيّة ووفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم (1515 ليرة للدولار)، أي بخسارة كبيرة في قيمة هذه الدولار.
أمّا الانهيار المالي، ففاقم من سوداويّة المشهد من نواحي عديدة. فمداخيل الضمان الإجتماعي تعتمد على اقتطاع نسبة ثابتة من أجور العمال والموظّفين. ومع تنامي موجة تسريح العمال وإقفال المؤسسات وتخلّف بعض الشركات عن سداد مستحقّاتها للصندوق، تراجعت مداخيل الصندوق هذه السنة بأكثر من 40%، وهو ما بات يزيد على العجز المتراكم الناتج عن تغطية تكاليف المرض والأمومة. ومن ناحية أخرى، ساهم انهيار الليرة التدريجي بدفع أعداد كبيرة من المستفيدين من الصندوق إلى طلب سحب تعويضاتهم خوفاً من خسارة إضافيّة في قيمتها نتيجة تراجع سعر الصرف، كما ساهمت أزمة تفشي وباء كورونا في زيادة تكاليف الاستشفاء التي يتحمّلها.
كلّ هذا التطورات السودايّة باتت تعدّ المشهد بشكل محكم لتتسبّب بانهيار غير مسبوق في الصندوق في حال ترشيد دعم الدواء، خصوصاً أنّ الصندوق غير قادر في وضعه الراهن على تحمّل زيادة في كلفة الأدوية التي يغطيها، وتحديداً أدوية الصحة العامة التي يقل سعرها عن 70 ألف ليرة والتي سيتم تسعيرها وفقاً لسعر صرف المنصّة. مع العلم أن هذا الانهيار لن يطال الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي وحده، بل سائر المؤسسات الضامنة، منها تعاونيّة موظفي الدولة وصناديق ومؤسسات التعاضد والاستشفاء الأخرى.
ومن المعلوم أنّ نكسةً من هذا النوع ستتحوّل حكماً إلى نكسة كبيرة على مستوى المستشفيات، نظراً لحجم الالتزامات المترتّبة على هذه الصناديق لمصلحة المستشفيات، وحجم الترابط الناتج عن هذا الأمر بين ميزانيات المستشفيات وميزانيات الصناديق.
البديل المتوفّر لتلافي هذا السيناريو الكارثي يبدأ أوّلاً في الحدّ من نسبة التغطية التي يوفّرها الصندوق في ما يخصّ الدواء، بمعنى أن يستمرّ الصندوق في تغطية الأدوية التي يشتريها المرضى وفقاً لسعر الصرف القديم (1515)، على أن يتحمّل المرضى الفارق في التسعيرة. مع العلم أنّ هذا النموذج هو الذي ذهب إليه الصندوق في ما يخصّ تغطية كلفة الاستشفاء بعد أن رفعت معظم المستشفيات تسعيرتها، واستمر الصندوق في توفير قيمة التغطية نفسها وفقاً لتسعيرته القديمة، فيما تحمّل المرضى الفارق. لكنّ هذا الخيار سيترك أثراً موجعاً على مستوى كلفة الطبابة، وقدرة المواطن على تحمّلها في ظل هذه الظروف.
في المقابل، ثمّة من يطرح خيارات أخرى، منها لجوء الصندوق إلى مصرف لبنان لصياغة هندسات ماليّة معينة تسمح بتحمّل الزيادة في كلفة الدواء. لكنّ هذه السيناريوهات تصب بمجملها في خانة التوسّع في ضخّ النقد، وزيادة التدهور في سعر الصرف. ما قد يفتح الباب للمطالبة بهندسات مماثلة لأزمات أخرى، وهو ما سيفاقم من أزمة سعر صرف الليرة.
من الواضح أنّ ترشيد الدعم سيترك تداعياتٍ لا يُستهان بها على الصناديق الضامنة، كفيلة بالتسبب بأزمة اجتماعيّة خانقة. ومن الأكيد أيضاً أنّ جميع فرق العمل الحكوميّة لم تأخذ بعين الاعتبار حتّى اللحظة هذه التداعيات عند الشروع في دراسة البدائل والسيناريوهات المتوفّرة لترشيد الدعم، خصوصاً أنّ فوضى النقاشات وتخبّطها لم يسمح حتّى اللحظة ببلورة خطة متينة ومتكاملة تراعي جميع القطاعات. وبغياب تلك الخطوة، سيكون المجتمع اللبناني على موعد مع خضّات كبيرة سيصعب استيعابها.