رهانات عراقية ولبنانية على قوة “الوطنية” البلدان محكومان بجغرافيا واحدة وتاريخ مختلف وخلاصهما خاضع للتطورات السياسية بهما
رفيق خوري-أندبندنت
العراق محكوم منذ الغزو الأميركي عام 2003 بالسير على خطى لبنان. محكوم مثله بالجغرافيا، ومختلف عنه في التاريخ، ومتشابه معه في ولادة الكيان الحديث بعد الحرب العالمية الأولى.
بلاد الرافدين كانت من أيام آشور وبابل إلى أيام صدام حسين، قوة إقليمية، وبلاد الأرز كانت ممراً للغزاة الذين ترك كل منهم لوحة على صخور نهر الكلب. عام 1920 أعلن الجنرال غورو قيام “لبنان الكبير” الذي يضم متصرفية جبل لبنان ومناطق كانت تحت الحكم العثماني في ولاية بيروت وولاية دمشق، بحيث رفض سكان تلك المناطق في البدء التسليم بالكيان واعتبار أنفسهم “لبنانيين”.
وعام 1921 قال الملك فيصل الأول الذي نصبه ونستون تشرشل “في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل تكتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية ومتشبعة بتقاليد دينية”. ومع الوقت تبدلت الأمور على الطريق إلى الاستقلال في لبنان عن فرنسا، وفي العراق عن بريطانيا.
اليوم تبدو مدرسة تعليم الطائفية في بيروت جامعة في بغداد. الشعب مقسم إلى “مكونات”. مراكز السلطة موزعة على المذاهب؛ رئاسة الجمهورية في لبنان للموارنة ورئاسة البرلمان للشيعة ورئاسة الحكومة للسنة مع هيمنة مارونية تلاها نفوذ سني، ثم هيمنة شيعية. رئاسة الجمهورية في العراق للكرد، ورئاسة الحكومة للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة مع هيمنة شيعية. قبل ذلك تولى رئاسة الحكومة في العراق من الشيعة صالح جبر، وفاضل الجمالي، وناجي طالب، ومحمد حمزة الزبيدي، وسعدون حمادي، ومن الكرد بكر صدقي، نور الدين محمود، وأحمد مختار باباجان، لكن تثبيت الحصص المذهبية جاء بتصميم من أميركا وإيران التي أزال الغزو عدوها والحاجز أمام نفوذها. وما فاخر به الحاكم الأميركي بول بريمر هو بناء النظام على أسس خاطئة؛ المسارعة إلى إجراء الانتخابات قبل أي بداية لمؤسسات الدولة والمؤسسات الاجتماعية. وقال “أميركا أخذت 7 سنوات لنيل الاستقلال، و12 سنة لكتابة الدستور، و20 سنة لتطوير الأحزاب مع أنها كانت مشبعة بالثقافة البريطانية، أما العراق الخارج من الطغيان، فإنه فعل ذلك في عامين”.
وما قاد إليه الغزو الأميركي ليس فحسب النفوذ السياسي الإيراني من خلال تولي الأحزاب والميليشيات التي دربتها السلطة، بل أيضاً إنشاء جيش أيديولوجي مذهبي تحت عنوان “الحشد الشعبي”، الذي صار بعد ظهور “داعش”، وفتوى “الجهاد الكفائي” لآية الله علي السيستاني “حشدين”؛ حشد “العتبات” التابع لمرجعية النجف، وحشد “الولاية”، التابع للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. كذلك الأمر في لبنان. الاجتياح الإسرائيلي واجه بطبائع الأمور مقاومة وطنية، سرعان ما صارت بقوة النفوذ العسكري والسياسي السوري والتخطيط الإيراني “مقاومة إسلامية” ينفرد بها “حزب الله” المؤمن بولاية الفقيه. وقاد هذا التحول الجيوسياسي مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتنامي الفساد إلى قيام “ثورة أكتوبر (تشرين الأول)” السلمية الشعبية في كل من العراق ولبنان من أجل التغيير ورفض الهيمنة، لكن التغيير في لبنان لم يحصل، حيث قامت المافيا الحاكمة والمتحكمة بتشتيت الثورة وحراسة السلطة الفاسدة. وفي العراق حدث التغيير جزئياً عبر اضطرار “البيت الشيعي”، و”البيت السني”، و”البيت الكردي” للتسليم برئاسة مصطفى الكاظمي للحكومة وهو من خارج الأحزاب.
وما يفعله الكاظمي للعراق هو ما فشل لبنان فيه؛ النأي بالنفس عن صراعات المحاور، والرفض لما سماه الرئيس برهم صالح أن يكون العراق “ساحة لتصفية الحسابات” بين قوى إقليمية ودولية، والانفتاح على العمق العربي. كانت البداية التطلع نحو السعودية ومصر. مع السعودية جرى توقيع اتفاقات في مجال الطاقة والبتروكيماويات والزراعة، وبدأ التخطيط لطريق بري إلى الحج عبر النجف. ومع مصر كانت اتفاقات التعاون العسكري والأمني والاقتصادي. والهدف هو التوازن في العلاقات مع كل الجيران وسط الحاجة إلى دور أميركي. وليس ذلك بلا حواجز أمامه بالطبع، حتى زعيم “معتدل” مثل عمار الحكيم، فإنه يقول بصراحة “العراق لم يعد درع العرب، لكنه يمكن أن يكون جسراً للعرب نحو شراكة إقليمية”.
وبالمقابل، فإن لبنان المحكوم بتحالف قوي يقوده حزب الله تحت النفوذ الإيراني وبقية النفوذ السوري، صار معزولاً عن أشقائه العرب وأصدقائه الدوليين. حتى مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإنقاذ لبنان، اصطدمت بالحسابات الشخصية والحسابات الجيوسياسية لأطراف ضمن الفريق الواحد الحاكم والمتحكم. ولا شيء يوحي، حتى إشعار آخر، بأن في العراق ولبنان حلاً لمشكلة السلاح خارج الشرعية، الذي له أدوار إقليمية في أماكن عدة بينها سوريا واليمن، لكن الرهان كبير على قوة “الوطنية” في العراق، وضبط الأزمات سيأخذ لبنان إلى السير على خطى العراق.