إسرائيل والدول الكبرى ومعادلات الصراع في المنطقة
إن المتابع للجانبين العربي والإسرائيلي، لا بد أن يلحظ التطورات الآتية :
أولاً: الجانب العربي
1. تدهور مجتمعي وثقافي وتعليمي وسياسي.
2. صراعات مجتمعية على أُسس مصطنعة.
3. أنظمة حكم تعْبد السلطة وتضحّي بالأوطان.
4. بسبب حب السلطة، تمكنت واشنطن وإسرائيل من نُظم الحكم العربية فحدث صدام بين مصالح الأوطان ومصالح الحكام.
5. عندما صارت الشعوب ضد الحكّام، تحالفت إسرائيل وواشنطن مع الحكام لقمعهم، وإعادتهم إلى مرحلة أسوأ من المراحل السابقة على الثورات؛ ثم ركز إعلام الأنظمة على اتهام الأخيرة بأنها “أضرت بالأوطان”، فغيّبت عقول الشعوب وقمعت المفكرين وأصحاب الرأي وعبثت بثروات البلاد.
6. انهيار منظومة القيم والأخلاق وإحلالها بمنظومة جديدة تكرّس المصالح الفردية وتضحي بالمصالح الجمعية.
7. بالنسبة إلى العلاقات الخارجية العربية، كان الصراع مع إسرائيل هو المؤشّر للعداوات والصداقات مع الدول الأخرى على أساس أنها “سرطان” في الجسد العربي كله ويحظر على كل مواطن عربي أن يقع تحت أي مؤثر إسرائيلي؛ كانت النتيجة أن صادق العرب كلاً من الإتحاد السوفيتي والصين وأقاموا علاقات طيبة مع بريطانيا وفرنسا وتحالفوا مع الهند ضد الباكستان من أجل القضية الفلسطينية وضحوا بقضية كشمير والبُعد الإسلامي في التوجهات العربية.
لقد كان العرب طوال تلك العقود كتلة واحدة تتحاور مع الكتل الإقليمية الأخرى، الأوروبية والإفريقية، لصالح القضية الفلسطينية التي تعلو على ما عداها، وتسمو على غيرها؛ لذلك، أطلقوا على القضية الفلسطينية لقب “القضية المركزية” و”قضية العرب الأولى”.
بعدها، تراجع الموقف العربي تحت شعار “السلام مع إسرائيل”، لا سيما بعد هزيمة مصر العام 1967 ليعود العرب ويلتفوا حولها العام 1973؛ لكن مصر التي قادت العرب في الصراع، هي نفسها التي قادت العرب إلى السلام الإسرائيلي عبر محطات كثيرة ساهمت فيها بعض من دول الخليج أيضاً، لا سيما مبادرات السعودية المتكررة وعلى رأسها مبادرة الأمير فهد بن عبد العزيز العام 1981 (الملك فيما بعد) ومبادرة ولي العهد عبد الله بن عبد العزيز العام 2002 (الملك فيما بعد) المعروفة بإسم “المبادرة العربية للسلام”، وذلك بعد أن تبنى العرب ما يسمى بـ “السلام” كخيار استراتيجي مع إسرائيل.
وفي هذه الأثناء، كان الفلسطينيون قد انقسموا، وجاء “إتفاق أوسلو” ليعزز هذا الانقسام ويلحق الفلسطينيين ببقية العرب لجهة وصالح إسرائيل.
ثانياً: الجانب الإسرائيلي
اجتهد الجانب الإسرائيلي في تضليل العرب وقمعهم بلا رحمة وتشديد قبضتهم في الداخل الفلسطيني، فاستخدموا سياسة الاغتيالات والرشاوى (خاصة الرشاوى “الجنسية”)، والسيطرة على الكثير من الحكام العرب. كما أكدوا علاقتهم بالولايات المتحدة التي ازدادت اقتناعاً، عبر العقود، بأن إسرائيل هي الحليف الوحيد الذي يُعتمد عليه، وأن العرب الذين تتحكم فيهم هم مجرد “أدوات”. أيضاً، شعرت واشنطن أن السيطرة على الحكام العرب، لصالح إسرائيل، هو الطريق الأمثل لبروز الأخيرة كمركز للتفاعلات في المنطقة؛ لذلك، فإن سياسات إسرائيل نجحت نجاحاً باهراً في تمزيق العرب وحرمانهم من الديمقراطية، كما أنها لم تتردد في التحالف مع الحكام العرب أنفسهم ضد ثورات الشعوب لأنها تدرك تماماً أن الديمقراطية إذا بدأت بمصر، بالتحديد، فإنها سوف تنتشر في المنطقة العربية وسيكون ذلك بداية نهاية إسرائيل لكون وجودها مرتبط بنتائج الأدوات والسياسات التي تستخدمها، وأهمها اقتناعها بأن الحياة لا تتسع لمصر وإسرائيل معا وإنما لإسرائيل وحدها.
الغريب أن مصر الرسمية لا تشعر بهذه البديهيات، ولا تزال السفيرة الإسرائيلية في القاهرة، أميرة هارون، تأمل بتطويع الشعب المصري لنزع عدائه لإسرائيل. ولا يخفى أن جهدنا وجهود غيرنا، في هذا المجال لرفع الوعي الشعبي عند المصريين والعرب، هو أكبر مقاومة، فهو أخطر على إسرائيل من المقاومة المسلحة لأن الأخيرة تضيّع العقول ثم تغزو ما تبقى منها بالإعلام الذي يؤازره إعلام الأنظمة العربية.
فقد تمكنت إسرائيل من فك التحالفات العربية مع كل من الهند والصين وروسيا، بعد الاتحاد السوفييتي، كما وثّقت علاقاتها المصلحية والوجودية بأوروبا والولايات المتحدة، وقامت أيضاً بطرد النفوذين المصري والعربي من إفريقيا، وهيمنت على أدق مرافق الأمن القومي المصري وهو الأمن المائي، فيما مصر لاهية عما تدبره لها إسرائيل.
هنا، أتذكر أن أستاذنا المرحوم عبد الملك عوده، الذي كان يعلّمنا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية مادة الشؤون الإفريقية، كان يقول إن إسرائيل “تتسلل إلى إفريقيا”، والآن هي تتحكم بها. في المقابل، فقد العرب الرغبة والقدرة على التسلل إلى إفريقيا، ودخل رأس المال العربي في كل الساحات طالباً مصلحته الشخصية، ومتنكراً لكل الأطر العربية والإسلامية، والدليل على ذلك أن رأس المال السعودي والإماراتي يقوم بتمويل “سد النهضة” الأثيوبي، الذي خطط له لكي يضر بمصر وجودياً. كما أن المستثمر العربي الذي فاقت استثماراته 3 تريليون دولار في الصين، لا نرى له أثراً على السياسات الصينية اتجاه القضية الفلسطينية، أو حتى اتجاه المسلمين الإيغور داخل الصين.
هكذا وخلال 4 عقود، تمكنت إسرائيل من الحلول محل العالم العربي في السياسات الدولية، كما تمكنت عبر أدواتها بالسيطرة على القرار العربي، وفرضت التخلّف بكل صوره والدكتاتورية على المواطن العربي كي تظهر هي على أنها “النموذج” المعتبر للدولة الحديثة الديمقراطية، وامتداد للحضارة الغربية، ووكيل حصري للمصالح الغربية في المنطقة.
تلك هي الصورة لمن أراد أن يفكر في إنقاذ العالم العربي من براثن إسرائيل.