«التطبيع» المتسارع هل يُصفّي قضيّة فلسطين فعليّاً؟
العميد د. أمين محمد حطيط*-البناء
يبدي البعض استغراباً لشدة الوقاحة التي يتصرف بها كثير من الأنظمة العربية الرسمية في مسار الذلة والإذعان والاستسلام للمشروع الصهيوني الاستعماري، وتزاحمهم على ركوب قطار الاستسلام المسمّى تطبيعاً مع العدو «الإسرائيلي».
بيد أنّ عودة الى التاريخ العربي اللصيق أو القريب يجد انّ الاستغراب في غير محله، فتلك الأنظمة لم تكن يوماً عدواً لـ «إسرائيل»، ولم تعمل يوماً من أجل فلسطين لإعادة أهلها إليها بل بالعكس تماماً عملت في الشأن الفلسطيني من أجل تخدير الفلسطينيين وتمكين «إسرائيل» من كسب الوقت لتتمّ عمليات الاحتلال والقضم والهضم وصولاً للإجهاز على كامل فلسطين التاريخيّة التي لم يكن فيها من وظيفة فعليّة لصفقة ترامب الإجرامية إلا كشف المستور والإعلان العملي عن انتهاء وتصفية القضية الفلسطينية بمباركة عربية، وفتح الطريق أمام معظم الأنظمة العربية للسير زحفاً والجثو أمام المغتصب «الإسرائيلي». وانّ وزير خارجية المغرب عبّر بدقة عن حال العرب هؤلاء في سياق ما كان يصف أو ما فاخر به من علاقات تاريخية مميّزة بين المغرب و«إسرائيل» كانت قائمة قبل الإعلان عن التطبيع.
ومع هذا ورغم الألم الذي تنتجه مواقف وكلمات أو صور تظهر موقع «إسرائيل» المميّز عند هذه الدولة العربية أو تلك من قبيل ان ترى العلم «الإسرائيلي» على برج خليفة في الخليج في دبي في الإمارات العربية، أو قول وزير خارجية المغرب بأنّ أحداً من البلدان العربية لا يملك علاقات مع «إسرائيل» بمثل الفرادة التي تنفرد بها المغرب تاريخياً في صياغة تلك العلاقات المميّزة، أو إقدام هذه الدولة العربية أو تلك من دول التطبيع المستجدّ على إعطاء «إسرائيل» موقعاً تفضيلياً في التجارة الخارجية حتى ولو كانت السلع المستوردة من نتاج المستعمرات «الإسرائيلية» في الضفة الغربية، رغم كلّ هذا الألم فإننا نرى في التطبيع وآثاره ومفاعيله صوراً هامة من طبيعة أخرى نذكر أهمّها كالتالي:
1 ـ أسقط التطبيع الأقنعة وأزال أوراق التين عن عورات الدول العربية تلك، وأظهرها على حقيقتها الخيانيّة لقضية فلسطين ومَن يريد أن يعرف أسفار الخيانات المرتكبة من حكام عرب بحق فلسطين ما عليه إلا أن يُعمِل الذاكرة ويعود الى حرب الإنقاذ وكيف كانت تسلّم الأرض الى الصهاينة بعد تحريرها من تشكيلات جيش الإنقاذ، ومسيرة الخيانة مستمرة لحكام عرب كانت قائمة ولم تتوقف يوماً.
2 ـ كشف التطبيع بكلّ صراحة ووضوح الدور الوظيفي السلبي للجامعة العربية التي عملت في الآونة الأخيرة بشكل أكثر وقاحة ضدّ مصلحة العرب وضدّ فلسطين وهي الجامعة التي باتت كما يبدو تستعدّ للفظ أنفاسها الأخيرة لتفسح في المجال أمام قيام «جامعة الشرق الأوسط الإقليميّة» التي يتحوّل فيها العرب المطبّعون الى أيتام وخدام لدى «إسرائيل» التي ستمسك بعصا القيادة فيها تديرها بشكل منسّق مع تركيا وبإشراف أميركيّ مباشر، وعلينا أن لا ننسى كيف أنّ جامعة السقوط العربي تلك أخرجت سورية العربيّة من صفوفها وطلبت من الناتو تدمير ليبيا وتفتيتها الى الحدّ الذي تعذّر عليها بناء دولتها مجدّداً رغم مضيّ 10 سنوات على التدمير.
3 ـ يرسم التطبيع الخريطة الاستراتيجيّة في المنطقة، ويقيم المحاور والتحالفات الخالية من أحصنة طروادة، والخالية من المثبطين عملاء العدو، وبهذا يمكن لمحور المقاومة وحلفائه من عرب ودول إسلامية أن يضعوا استراتيجية المواجهة بوجهيها الدفاعي والهجوميّ من دون أن يقعوا فريسة التضليل والخداع. وهنا لا بدّ من الإشارة الى انّ المقاومة في جبهتها ومكوّنات محورها لم تخسر شيئاً ميدانياً بإعلان تطبيع من طبّع إذ لم يكن هؤلاء يوماً جنوداً لفلسطين وانقلبوا عليها الآن، بل كانوا خونة لفلسطين متستّرين وخرجوا من الصفوف الآن وتراجع خطرهم بعد أن فُضح أمرهم وباتت عمالتهم وخيانتهم علانية.
4 ـ يضع التطبيع بوصفه عملاً خيانياً الشعوب العربية أمام مسؤولياتها، التي يجب أن تضطلع بها تلك الشعوب تحت عنوانين، عنوان الرفض السلبي بالامتناع الكلي عن التعامل مع كلّ مَن ينتمي او يتصل بالعدو «الإسرائيلي» وشنّ أوسع الحملات للمقاطعة والتصرّف كما وكأنّ التطبيع لم يحصل، وعنوان الضغط الفاعل والنشط على الحكام في تلك البلدان من أجل إفهام الحاكم أنه أخطأ وأنّ الشعوب غير موافقة على خيانته ولن تسير بمقتضاها.
5 ـ أما العدو الذي يتباهى اليوم بهذا الانتصار الاستراتيجي الهائل، فهو يعلم وفي العمق أنّ اجتياحه للعالم العربي بالتطبيع وفرضه على أنظمة فيه للتركيع، فإنه يعلم انّ التطبيع بهذا الشكل والحجم هو عمل ليس من شأنه أن يوفر له إجابات موثوقة على أسئلة وجودية خطيرة تقضّ مضجعه خاصة أنه يرى في المواجهة جبهة إقليميّة قائمة ومستمرّة ترفض وجوده وترفض التنازل عن فلسطين رفضاً يعلم العدو أهميته خاصة عندما ينظر الى القوة التي يمتلكها الرافضون والتي فرضت على العدو تصرفاً يضع وجوده تحت علامة استفهام كبيرة. في الوقت الذي يعرف أنّ المطبّعين لم يخرجوا من الميدان العسكري في مواجهة «إسرائيل» لأنهم لم يكونوا يوماً فيه ولن يكونوا في الخندق مع «إسرائيل» في مواجهة المقاومة. نقول هذا رغم علمنا بالمزايا العسكرية والاستراتيجية التي تمنحها مسارات التطبيع لـ «إسرائيل» في مواجهة إيران بشكل خاص.
وفي الخلاصة نقول إنّ ما يسمّى التطبيع بصفته الخيانية التي لا شكّ فيها هو انقياد واستسلام للعدو لم ولن يحقق على الصعيد العام سلاماً ولن يوفر لمن طبّع من العرب مصلحة أو يكرّس لهم مكسباً، ورغم أنه سيحقق لـ «إسرائيل» بعض المكاسب والمصالح المتنوعة الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية وقد يكون فيها بعض العسكرية، لكنه لن يحلّ لها مأزقها الوجودي في ظلّ قوة محور المقاومة الرافض لهذا الوجود وقوته المتصاعدة رغم كلّ الضغوط الأميركية كما، قوة تعطف على فعالية وجود كتلة ديمغرافية فلسطينية كبيرة حرمتها الخيانة من حقها بالأرض والدولة المستقلة، ولذا ستبقى شاهداً على استحالة تصفية القضية الفلسطينية من غير استعادة الحق لصاحبه.
ويبقى أن نؤكد انّ التطبيع المزعوم سيلقي بثقل المسؤولية على الشعوب في الدول المطبّعة، لتقول كلمتها وتعلن مواقفها بشكل يجهض أهداف التطبيع ويظهرها بأنها أعمال ذات طبيعة كرتونية غير مجدية، ولهذه الشعوب في الشعب المصري خير اسوة ومثال حيث أنه برفضه لـ «إسرائيل» حرمها من الحركة أو التغلغل أو الوجود المجدي في الشارع المصري بكلّ عناوينه.
* أستاذ جامعي – باحث استراتيجي.