بين عون وبري… حان وقت المعركة الكبرى!
فجأة انتقل “الشَغَب” من ضفّة الحكومة إلى مجلس النواب. يوم أمس، جلسة للجان النيابية المشتركة لدرس اقتراحات قانون الانتخاب. وغداً دعوة لانعقاد الهيئة العامة لمناقشة الرسالة الموجّهة من رئيس الجمهورية إلى المجلس حول التدقيق الجنائي “لاتّخاذ الموقف أو الإجراء أو القرار في شأنها”. و”يوماً ما” جلسة (لن تعقد) يطلبها المحقّق العدلي فادي صوان ليّخذ مجلس النواب “ما يراه مناسباً” في شأن مسؤولية تقصير وإهمال رؤساء حكومات ووزراء ربطاً بقضية انفجار المرفأ.
في آخر سنتين من العهد، تبدو الجبهات المفتوحة بين بعض القوى السياسية أقرب إلى معركة “دمارٍ شامل”. يا غالب يا مغلوب. فبوجود رعاة دوليين للأزمة في لبنان، وارتسام معالم التغيير والتطبيع في المنطقة، وجدّية الحديث عن حصول الانهيار الداخلي الكبير كمدخل لنظام جديد، يصعب بعد الآن الأخذ بتسويات شبيهة بتلك التي طبعت العهود الماضية.
على الأرجح، يخوض ميشال عون معاركه الأخيرة بوجه أكثر من طرف. وها هي “قوات الجنرال” تتقدّم باتجاه عتبة ساحة النجمة، بكل ما أوتيت من “عناد طائفي”.
يضع رئيس الجمهورية تعديل قانون الانتخاب في آخر سلّم أولوياته راهناً في ظلّ ملفات يراها حاسمة في تقرير مصير عهده، والتدقيق الجنائي على رأسها. مع ذلك “يطحَش” الرئيس نبيه بري في محاولة تقديم قانون الانتخاب إلى الواجهة، داعياً إلى جلسة لدرس اقتراحات قوانين من بينها اقتراح مقدّم من النائبين أنور الخليل وإبراهيم عازار باعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة على أساس النسبية، إضافة إلى اقتراح قانون انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ.
المشهد “سوريالي”. أكثر من 65 نائباً يبحثون في تعديل قانون الانتخاب وسط أزمة حكومية. هذا يجري وسط أزمة حكومية لا مثيل لها ربطاً بالكارثة المالية والاقتصادية التي تؤذن بخروج الأمور عن السيطرة. نواب منقسمون طائفياً وسياسياً وعامودياً وأفقياً ويتناتشون الحقائب على أساس مذهبي، يبحثون، إضافة إلى تحديد “جنس” قانون الانتخاب، عن انتخاب أعضاء مجلس الشيوخ لمجلس نواب خارج القيد الطائفي!
ولولا إدارة نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي للجلسة لوصلت “السموم” الطائفية إلى البحر بجوار المرفأ.
صحيح أنّ الدعوة الى الجلسة أخرجت القوات اللبنانية عن طورها، ودفعت سمير جعجع إلى وصفها بـ”المؤامرة” وبانّها محاولة لتغيير النظام السياسي، إلا أنّ الرسالة الأكبر وصلت إلى قصر بعبدا.
وما تراه “القوات” مؤامرة يصنّفه رئيس الجمهورية “تحريفاً للمسار”، و”هروباً من المواجهة الكبرى”، وانقلاباً على “الشريك المسيحي”.
إنّها المعركة الكبرى بين رئيس جمهوية فضّل لو يبدأ عهده برئيس مجلس نواب غير نبيه بري. ورئيس مجلس نواب لم يتمنّ يوماً وصول “الجنرال” إلى بعبدا بعدما أخرجته الدبابات السورية منه. مسار هائل من التراكمات السلبية بين الرجلين، أمكن ضبطها عند اللزوم بمعيّة حزب الله، لكنها وصلت إلى نقطة اللاعودة، وتكاد تنحصر اليوم بعنوان واحد، هو التدقيق المالي الجنائي، بداية بحسابات مصرف لبنان.
وكما جرّ الرئيس بري القوى السياسية، وبينها التيار الوطني الحرّ، إلى جلسة قانون الانتخاب، جرّ رئيس الجمهورية مجلس النواب برمّته إلى جلسة “تحقيق” وفرز: مَن مع، ومَن ضدّ التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان.
تلقّف بري فوراً الكرة ودعا إلى جلسة غداً لمناقشة رسالة عون وترافقت مع إعلان النائب علي حسن خليل عن تقديم كتلة “التنمية والتحرير” اقتراح قانون لإخضاع كافة الوزارات والإدارات والمؤسّسات العامة ومصرف لبنان للتدقيق الجنائي، مع رسالة سياسية تستهدف رئيس الجمهورية وجبران باسيل مباشرة: “الرأي العام مضلّل نتيجة الخطاب الشعبوي. وحركة أمل كانت السبّاقة في السير بالتدقيق الجنائي”.
هو نائب الحركة نفسه الذي تجنّد للردّ مباشرة على عون حين أشار الأخير الى “مقاولين زاروه في قصر بعبدا وتحدّثوا عن دفع “خوّات” في وزارة المال”، مطالباً إياه “بتسمية هؤلاء ولمن دفعوا علّهم يتحدّثون عن الحقائب المحوّلة إلى بعبدا وقصرها، ولا يتجرأون على إثباتها أيضاً”!
وما كان يُقال في كواليس عين التينة، بات خطاباً معمّماً على لسان “الحركيين” والمحيطين ببري: “العبء المالي الأكبر يكمن في ملفّ الكهرباء.. ليبدأ التدقيق والمحاسبة من هناك”. ويأتي بيان كتلة التحرير والتنمية أمس ليفتح سجالاً مباشراً مع عون الذي شدّد على “وحدة المعايير” بتأليف الحكومة في خطاب الاستقلال فيأتيه الجواب من عين التينة: “الإجراء الوطني الوحيد الذي لم يعد يحتمل التأجيل والمماطلة هو الاسراع بإنجاز تأليف حكومة إختصاص وفقاُ للمبادرة الفرنسية بعيداُ عن الإختباء او التلطي تارة خلف عناوين وحدة المعايير وتارة أخرى المداورة وطوراُ الرهان على متغيرات إقليمية او دولية”.
أما في كواليس القصر الجمهوري وميرنا الشالوحي، فالمآخذ والاتهامات أكبر بكثير: “رموز الفساد معروفة، ومن يدّعي العفّة ما عليه سوى إثبات ذلك أمام القضاء والتوقف عن عرقلة كشف الفاسدين وحمايتهم بادّعاء العكس. ونحن نسأل من يحمي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اليوم؟ ومن عرقل الكابيتال كونترول؟ ومن يتمسّك بمكتسبات العهود الماضية؟ ومن يريد إبقاء حقيبة المال تحت سلطته ومونته؟ ومن صاحب المصلحة في منع التدقيق الجنائي؟ ومن يضغط على القضاء لحماية “جماعته؟…”.
موقف يخلق توازناً مع كلام رئيس الجمهورية المهادن أمس باعتبار أنّ الرسالة إلى مجلس النواب حول التدقيق المحاسبي الجنائي “مستقلّة عن الصراعات والخلافات والسياسية”، شكلية كانت أم عميقة. حقيقة الأمر أنّ الفجوة بين الرجلين، باتت أكبر من ترميمها بمصطلحات من هذا النوع.
وفي ما يذكّر بحقبة مقاومة الاحتلال السوري ومناصرة “الجنرال”، انتشرت في بعض المناطق كتابات على الجدران من النوع التالي: “التدقيق الجنائي راجع”، وذلك قبل يومين من جلسة الجمعة، في ظلّ تسليم عوني بأن الثلاثي بري – الحريري – جنبلاط يقف ضدّه، وسيحاربه حتّى الرمق الأخير “لأن رأسه بالدق”!.
وتطرح تساؤلات حول النتائج العملية لرسالة عون إلى مجلس النواب بعد الطلب منه “التعاون مع السلطة الإجرائية من أجل تمكين الدولة من إجراء التدقيق المحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان وسائر مرافق الدولة العامة، التي لا يحول تصريف الأعمال دون اتّخاذها القرارات الملائمة عند الضرورة العاجلة”.
على مستوى السلطة الإجرائية، تبدو حكومة حسان دياب مقصّرة في مواكبة ما هو أكثر إلحاحاً من التدقيق الجنائي. وتبرز هنا معضلة التفاوض مع شركة جديدة، والخيارات المتاحة بعد هرب شركة “ألفاريز أند مارسال”. والتعاون المطلوب من مجلس النواب مع هذه السلطة لا يبدو قابلاً للتقريش والترجمة الفورية.
وفق مصادر مطلعة، فإنّ مناقشة الرسالة تأتي استجابةً لرغبة رئاسية، لكن بهدف إحراج عون و”تعويم” التدقيق الجنائي بتصويره مطلباً عاماً مقبولاً من الجميع.
أما غير ذلك، فلا تأثير إجرائياً أو عملانياً للرسالة في ظلّ تجربة فاشلة بتوجيه الرئيس عون رسالة مشابهة في 31 تموز 2019 حول تفسير المادة 95 التي حدّد لها بري موعداً في 17 تشرين الأوّل… موعد انطلاقة الثورة. أما غداً، فحفلة من المزايدات والشعبوية سيبدو فيها التيار الوطني الحرّ آخر من يريد التدقيق الجنائي!!