تحقيقات - ملفات

شرق أوسط ما بعد أميركا”.. إحتواء ايران (1)

مصطفى شلش – موقع 180 post

لماذا لا يزال الشرق الأوسط مهما لأميركا. سؤال يطرحه ستيفن أ. كوك، أحد باحثي دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، في مقالة له نشرتها “فورين أفيرز”. سؤال يحمل في طياته أسئلة تتصل بمستقبل الوجود الأميركي في المنطقة وكيف تدافع واشنطن عن مصالحها ومستقبل علاقتها بإسرائيل وأنظمة المنطقة في ضوء تجربة العقدين الأخيرين. هنا الجزء الأول من هذه الدراسة القيمة.
سِجل الفشل الأميركي في الشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين طويل ومثير للفزع. كانت الكارثة الأكثر وضوحًا هي غزو العراق عام 2003. لكن المشكلة بدأت قبل فترة طويلة من هذا الفشل الذريع، فقد كان انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، و”الموجة الثالثة” من التحول الديمقراطي حول العالم، والثروة التي ولّدتها العولمة من التطورات الإيجابية، ولكن كانت هناك للعولمة تطورات سلبية منها أنها أنتجت مزيجًا سامًا من الغطرسة الأميركية والإفراط في الطموح، وذلك تشربه الطيف السياسي الأميركي، وتوصل المسؤولون والمحللون – إعتباطيًا أحيانًا – إلى الاعتقاد بأن مجتمعات الشرق الأوسط بحاجة إلى مساعدة واشنطن وأن الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم قوتها بطرق بناءة في المنطقة، ما أدى إلى كل المحاولات الفاشلة والمدمرة في قضايا مثل تغيير المجتمعات العربية، وحل الصراع العربي – الإسرائيلي، والقضاء على الإرهاب، وإنهاء تطوير إيران للتكنولوجيا النووية.
وكرد فعل أميركي متسرع على “الفشل”، تشكل إجماع جديد بين نخب السياسة الخارجية الأميركية مفاده: “لقد حان الوقت لواشنطن لتقر بأنه لم يعد لديها مصالح حيوية في منطقة الشرق الأوسط، وأن عليها تقليل طموحاتها إلى حد كبير”. بناءً عليه يجب تقليل قواتها العسكرية، وربما حتى إنهاء حقبة “الحروب التي لا نهاية لها” بالانسحاب الكامل مِن الشرق الأوسط.
بعد عقدين من الدمار والفشل الأميركي، قد تبدو مثل هذه الحجج مقنعة، لكن ستيفن أ. كوك، وهو أحد باحثي دراسات الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية، يرى في مقالة له في “فورين أفيرز” معنون بـ”لا يوجد مخرج – لماذا لا يزال الشرق الأوسط مهمًا لأميركا”؟ أن مغادرة الولايات المتحدة الشرق الأوسط “ليست سياسة سليمة”، بل لا تزال لدى واشنطن مصالح مهمة هناك تستحق الحماية، وحتى لو جعلت التغييرات السياسية والتكنولوجية والاجتماعية تلك المصالح أقل أهمية مما كانت عليه قبل عقود.
لكن كوك يطرح بديلاً من استخدام القوة الأميركية لإعادة تشكيل المنطقة هو أن يتبنى صانعو السياسة أهدافاً أكثر واقعية وقابلية للتحقيق مثل: إرساء الاستقرار والحفاظ عليه.
مرتكزات الشرق الأوسط الأميركي
الأحاديث الفضفاضة في السنوات الأخيرة حول الانسحاب قوضت نفوذ واشنطن، وذلك بفضل التصور السائد بين قادة الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة تعتزم التخلي عن دورها القيادي، وبرزت الصين وروسيا كوسطاء أو حتى حلفاء بديلين. وفي نظر كوك، فإنّ هذا ليس تطوراً سلبياً فقط لواشنطن ولكن لشعوب المنطقة أيضًا. ولمنع السيناريو الأسوأ، الذي يأخذ فيه الفاعلون الإقليميون الأمور بأيديهم، ويزرعون المزيد من عدم الاستقرار، والمزيد من الفوضى، والمزيد من إراقة الدماء، تحتاج واشنطن إلى صياغة إستراتيجية واضحة لكي تعرف مصالحها الحقيقية في الشرق الأوسط وكيفية الحفاظ عليها.
يلحظ كوك التحول في قوة الطيف السياسي الأميركي الداعي إلى تقليص التواجد في الشرق الأوسط وتقليص النفقات العسكرية هُناك أو الانسحاب منه إن إقتضت الحاجة، كما يُعطي أمثلة أبرزها: سوريا وليبيا وإيران، مع فارق لكل مثال، لكي يظهر أن أصوات المُطالبة بالمشاركة أو الإنخراط في صراعات الشرق كما في السابق لم يعد لها صدى، فكان هناك حسم لعدم التدخل في سوريا بالرغم مِن أن المُعارضة السورية استخدمت كل نفوذها في الكونغرس والبيت الأبيض والبنتاغون وفي أوساط صناعة السياسة الخارجية. وبالمثل، قبلها، في نفس العام، ليبيا، فإن معظم الأميركيين ومعظم المسؤولين والمحللين شددوا على أن الدور الأميركي يجب أن يقتصر على إنشاء منطقة حظر طيران لمنع النظام الليبي من استخدام القوة الجوية. أما، إيران فقد أثارت سؤالاً شديد الصعوبة أكثر من سوريا ولييبا حول ما يجب فعله بشأن برنامجها النووي. وبرغم حدة النقاشات بين الفرقاء السياسيين في واشنطن لم يكن الخلاف الأساسي حول استخدام القوة أو متابعة السياسة الدبلوماسية، ولكن حول ما إذا كانت الصفقة التي صاغتها إدارة باراك أوباما في النهاية تمثل أفضل نتيجة دبلوماسية ممكنة.
ربما كان أبرز مثال على التحول في وجهات نظر واشنطن حول استخدام القوة في الشرق الأوسط هو رد الفعل الهزيل على الهجوم الذي استهدف المنشآت النفطية في المملكة العربية السعودية في أيلول/سبتمبر عام 2019، والذي تعتقد معظم وكالات الاستخبارات الغربية أن إيران نفذته. وخلال الجزء الأكبر من السنوات الأربعين الماضية، كانت سياسة الولايات المتحدة هي الدفاع عن حقول النفط في خليج فارس.
ومع ذلك، عندما أدى هجوم إيراني – ربما – وشلّ جزءاً كبيراً من إمدادات النفط العالمية من السوق، أثار المتخصصون في السياسة الخارجية الأميركية إنذارات شديدة اللهجة ليس بشأن هجوم إيران ولكن بشأن العواقب الخطيرة المحتملة للرد العسكري الأميركي، وكان ضبط النفس في نظر الأغلبية هو الخيار المناسب. كان الغياب شبه الكامل لـ”الحرب” داخل دوائر النقاش لافتًا لنظر. وقد كان أهم مبرر استراتيجي للوجود الأميركي في المنطقة – ومبرر إنفاق مليارات الدولارات على مدى عقود – هو ضمان الهيمنة العسكرية الأميركية في المنطقة، والحفاظ على التدفق الحر لموارد الطاقة من خليج فارس، كما يشير ستيفن أ. كوك، إلى أنّ التردد في الخيار العسكري ليس هو المشكلة، ولكن عدم النقاش حوله مِن الأساس هو ما يشير إلى مشكلة أعمق، وهي: “عدم وجود إطار مشترك للتفكير في المصالح الأميركية في المنطقة”. ويظهر ذلك بفقدان مجموعات التفكير في سياسة الولايات المتحدة بالشرق الأوسط بريقها منذ فترة طويلة. وفي الوقت نفسه، أصبحت المنطقة معقدة بشكل كبير، وبها كم مستمر من الإشكاليات.
وفي خضم هذه الحقائق الجديدة، ظهر شكل من الضعف التحليلي بين المسؤولين والمحللين الأميركيين – وهو رمي جماعي للأيدي – تأجيل للمشكلات – يفسر جزئيًا النداء الواسع النطاق لتقليص النفقات والانسحاب.
طوال الحرب الباردة وخلال العقد الأول من هذا القرن شكّل (1) ضمان البنزين الرخيص للمستهلكين الأميركيين، (2) دعم الأمن الإسرائيلي، (3) محاربة الإرهاب، (4) منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، أهدافًا أساسية أظهر الأميركيون وقادتهم استعدادًا لإنفاق الموارد، وحتى التضحية بالأرواح، من أجلها. لكن في السنوات الأخيرة أصبحت الأهداف الأربعة أقل أهمية – لا يمكن وصفها بعديمة الأهمية – فقد سمحت الطفرة في التكسير الهيدروليكي للولايات المتحدة بأن تصبح مستقلة عن الطاقة (تقريبًا). وأثار هذا تساؤلات بين القادة السياسيين والمحللين حول ما إذا كانت حماية التدفق الحر للوقود الأحفوري من الشرق الأوسط تستحق الاستثمار في الولايات المتحدة.
كما تستمر إسرائيل في التمتع بدعم أميركي كبير، لكن التغييرات الديموغرافية والسياسية في الولايات المتحدة من المرجح أن تقلل من سخاء واشنطن في العقود المقبلة. ومن الصعب بشكل متزايد إثبات أن إسرائيل لا تزال بحاجة إلى المساعدة الأميركية، فإسرائيل دولة غنية ذات اقتصاد متقدم ومتكامل بشكل جيد مع بقية العالم، وخاصة في قطاع تكنولوجيا المعلومات، ويتساوى نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها مع نظيره في كل من فرنسا والمملكة المتحدة، ولم يكن موقع إسرائيل الاستراتيجي أفضل من أي وقت مضى. ولا تزال إيران تشكل تحديًا، لكن يمكن للجيش الإسرائيلي ردع طهران وحلفائها، ويمتلك الإسرائيليون جيشاً أكثر تطوراً بكثير من أي من جيرانهم. كما طورت إسرائيل علاقاتها مع الدول العربية في الخليج، بما في ذلك تطبيع العلاقات مع البحرين والإمارات العربية المتحدة – وذلك في ظل إحكام قبضتها على الضفة الغربية الفلسطينية المُحتلة، منذ نصف قرن. ببساطة، لم تعد إسرائيل حليفًا محاصرًا.
وفي الوقت ذاته، لم يعد الإرهاب يملك أي تأثير قوي كذاك الذي كان يملكه في السابق على السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ولم تتعرض الولايات المتحدة لهجوم ضخم آخر على مستوى هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وقد تم القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” (“داعش”) في العراق وسوريا. وفي عصر جائحة كورونا، صار خوف الأميركيين من المهام الدنيوية للحياة اليومية أكثر من الخوف من الإرهاب. علاوة على ذلك، يجادل المدافعون عن الانسحاب الأميركي بأن الإرهاب هو إلى حد كبير وظيفة الوجود الأميركي في المنطقة، لكن يستغل المتطرفون ذلك لإقرار دعواتهم الجهادية لمقاومة المُحتل الأميركي. وعلى أقل تقدير، يذهب الجدل إلى أنه مع وجود عدد أقل من القوات الأميركية في المنطقة، فإن التهديد الذي يتعرض له الأميركيون في الداخل سوف يقل.
أخيرًا، تلقت فكرة الإنتشار الأميركي في المنطقة ضربة مٌدمرة مع الغزو المشؤوم للعراق، والذي تم بيعه كوهم قائم أساسًا على مهمة نزع سلاح دمار شامل مِن نظام صدام حسين. وكان هذا خطأ فادحًا غير عادي نظرًا لأن العراق لم يكن يمتلك في الواقع أسلحة دمار شامل. لذا فإن معظم الأميركيين، الآن، بما في ذلك العديد من نُخب السياسة الخارجية يرون أن منع انتشار الأسلحة النووية مشكلة يتم حلها بشكل أفضل من خلال الدبلوماسية أو على الأقل مشكلة لا تتطلب نوعًا من البنية التحتية العسكرية للولايات المتحدة، والتي تحتفظ بها في بعض دول منطقة الشرق الأوسط حاليًا.
شرق أوسط ما بعد أميركا
بعد هذا العرض الموجز لأربع مرتكزات أميركية في الشرق، يتسائل ستيفن أ. كوك: إذا لم تعد حماية تدفق النفط، وحماية إسرائيل، ومحاربة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل هي ما تجعل الشرق الأوسط أولوية للسياسة الخارجية الأميركية أو يبرر وجودًا عسكريًا أميركيًا كبيرًا هناك، فماذا إذن؟ الجواب: الإدارة. يرى كوك أنه عند إدارة الوجود الأميركي بشكل صحيح، فإنه سيوفر للمنطقة درجة من الاستقرار، خصوصًا في جزء من العالم مزقته أعمال العنف والدول المنهارة والسلطوية، فالشرق الأوسط الذي تشكل مُعتمدًا بدرجة كبيرة على المشاركة الأميركية لا يكاد يكون معقلاً للديمقراطية الليبرالية والازدهار، (كليشيه من الوهم الأميركي) لكن وجود شرق أوسط ما بعد أميركا سيكون أسوأ.
يبدأ كوك بإيران، حيث لم تتمكن الولايات المتحدة من إجبار الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو إقناعها بالتخلي عن سعيها لامتلاك أسلحة نووية، أو وقف دعمها للجماعات “الإرهابية”، أو إنهاء قمعها الوحشي لمواطنيها. وفي هذه المرحلة، يجب على واشنطن الاستغناء عن هذه الأهداف. بدلاً من ذلك، يجب أن تنتهج سياسة أكثر كفاءة وأقل خطورة وهي: الاحتواء. وقد يعني هذا استبعاد تغيير النظام من أجندة الأهداف، والعمل في المقابل على الحد من ممارسة القوة الإيرانية في المنطقة من خلال وضع قواعد ضمنية حول السلوك الإيراني المقبول. ومع ذلك، فإن الاحتواء ليس مجرد تمرين في الدبلوماسية؛ إنه يتطلب وجود قوات عسكرية وتهديدًا موثوقًا باستخدامها.
يأمل الكثير مِن نخبة الخارجية الأميركية أنه في ظل إدارة رئاسية مختلفة، ستدخل الولايات المتحدة مجددًا في خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015، والتي وافقت فيها إيران على تقييد أنشطتها النووية بشكل يمكن التحقق منه مقابل تخفيف العقوبات، أو التفاوض على اتفاقية جديدة. لكن الديناميكيات الإقليمية لا تصلح لمثل هذه النتيجة. وبغض النظر عن مدى جودة صياغة الصفقة الجديدة، فإنها ستثير القلق في إسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وستفعل هذه الدول كل ما في وسعها لتقويض أي اتفاقية جديدة، وبغض النظر عن العتاد العسكري الذي عرضته عليها الولايات المتحدة مقابل موافقتها. وحتى لو وافقوا بالفعل، فإن كل هذه الأسلحة ستجعل من السهل عليهم محاولة تقويض الصفقة باستخدام تلك الأسلحة ضد إيران أو وكلائها. وبهذه الطريقة، فإن أي جهد لتحقيق الاستقرار في المنطقة من خلال المفاوضات يمكن أن يكون له تأثير سلبي.
ومع ذلك، فإن الاحتواء لا يعني ببساطة السماح للإيرانيين بتطوير أسلحة نووية. ولن تمنع إستراتيجية الحوار أو العقوبات أو استخدام القوة هذه النتيجة. في الواقع، يجب أن يشمل الحل مزيجًا من الثلاثة. ولن يكون الاحتواء أمرًا رائعًا، ولن يفوز أي شخص يسعى وراء جائزة نوبل للسلام فقط (كوك يقصد الرئيس السابق باراك أوباما). لكنها تعد بشيء يمكن تحقيقه على الأقل: الحد من التوترات في الخليج العربي. (غداً الجزء الثاني والأخير من دراسة ستيفن أ. كوك).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى