أميركا والديمقراطيّة المزعومة!
د. محمد سيّد أحمد-البناء
شهدت الأيام الماضية أكبر حدث انتخابي على المستوى العالمي، وهو الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يعتقد الكثيرون فوق كوكب الأرض أنها واحة الديمقراطية. وهذا بالطبع وفقاً لما روّجته الآلة الإعلامية الجهنّمية الجبارة التي تمتلكها أميركا على مدار عقود طويلة، فدائماً كانت المقارنات تعقد بين ما يتمّ هناك في بلاد العم سام وبين ما يتمّ في المجتمعات الأخرى على سطح المعمورة.
ويندب دائماً مواطنو هذه المجتمعات حظوظهم خاصة في دول الجنوب، على دكتاتورية بلادهم وشكل الانتخابات بها والتي يتمّ تزويرها بطرق شتى، في حين يتمتع المواطن الأميركي بحرية تامة في الإدلاء بصوته الانتخابي، وضمان تأثير هذا الصوت في العملية الانتخابية. هذا إلى جانب عدم تدخّل أجهزة ومؤسسات الدولة في عملية الاقتراع، بل تقدّم كافة التسهيلات على المواطن من دون تأثير منها على صوته إلى أين سيذهب.
وتبدو المسألة أنّ الجميع يستهدف مصلحة المواطن الذي يطلقون عليه مصطلح دافع الضرائب، لذلك على المرشحين تقديم الوعود الانتخابيّة التي تجذب إليهم أصوات الناخبين، ودائماً ما يسعى المرشح لكسب رضاء المواطنين الذين لولا أصواتهم ما صعد لموقعه في السلطة. وتبدو المسألة وفقاً لهذه الصورة الذهنية المرسومة، أنّ العملية الانتخابية في بلاد العم سام لا تمتّ بصلة لأيّ شكل من أشكال الانتخابات التي تتمّ فوق كوكب الأرض، وخاصة تلك التي عرفتها مجتمعاتنا.
فالانتخابات في الدول التي لم تحظ بأيّ قدر من الديمقراطية مثلما تصنّف مجتمعات ودول الجنوب نسمع عن أشكال وآليات مختلفة ومتنوّعة لعملية التزوير سواء بشكل مباشر عبر المرشح وأنصاره أو عبر أجهزة ومؤسسات الدولة التي يتمّ السيطرة عليها عبر الجالسين على مقاعد السلطة، ويمكنني وعبر خبرة طويلة تمتدّ إلى ما يزيد عن أربعين عاماً في متابعة العمليات الانتخابية والمشاركة فيها تسجيل بعض أساليب التزوير التي رصدتها بنفسي وبشكل مباشر.
فهناك تزوير يتمّ من خلال البلطجة سواء بمنع أنصار مرشح بالإدلاء بأصواتهم مقابل السماح لأنصار المرشح الآخر بالمرور السهل والسلس للإدلاء بالصوت. وهناك تزوير يتمّ بالبلطجة أيضاً بمنع مندوبين المرشحين دخول اللجان بحيث ينفرد مندوبو المرشح الذي يرغب في التزوير بالصناديق ويقوم هنا بتسويد البطاقات لصالح مرشحه، وهناك أيضاً تزوير بالبلطجة يتمّ بعد الانتهاء من عملية التصويت وكانت تنقل الصناديق من اللجان الفرعية للفرز في اللجنة العامة وأثناء نقل الصناديق كان يتمّ استبدالها بصناديق جاهزة ويتمّ التخلص من الصناديق الحقيقيّة.
وبالطبع كانت هذه الأساليب تتمّ بعيداً عن أجهزة ومؤسسات الدولة بشكل مباشر، ولكن هناك بعض أساليب التزوير التي تتمّ بتعاون مع صغار الموظفين المشاركين في تنظيم العملية الانتخابية بشراء ذممهم لتسويد البطاقات لصالح مرشح بعينه مقابل مبالغ مالية كبيرة. وهذه العملية كانت تتمّ بطرق مختلفة سواء أثناء سير العملية الانتخابية داخل اللجان أو أثناء الفرز والتبليغ بحيث يبلغ القاضي الجالس لجمع الأصوات بأرقام غير حقيقية، وهناك طرق مباشرة من أجهزة الدولة بشكل مباشر حيث تعطى التعليمات المباشرة بإعلان نجاح مرشح بعينه وإعطائه أصواتاً محددة لم يحصل عليها في الواقع، وهنا قد يشارك موظفون كبار في هذه العمليّة.
وبالطبع شهدت عملية تزوير الانتخابات في لحظة معينة ما عرف بالورقة الدوّارة وهى عملية مستحدثة ظهرت مع ظهور ما يطلق عليه المال السياسيّ، حيث أصبحت عمليات بيع وشراء الأصوات تتمّ بمقابل سواء عينيّ (سلال الغذاء وشنط المواسم) أو نقدي حيث يأخذ المواطن ورقة شبيهة بورقة الانتخابات ويضعها فارغة بداخل الصندوق ويحضر ورقته فيقوم المرشح بتسويد البطاقة لصالحه ويمنحها لمواطن آخر يدخل ليضعها في الصندوق ويأتي بورقته فارغة ويتلقى مقابل ذلك الورقة النقدية أو السلة الغذائية أو الشنطة الموسمية وهكذا.
ومن بين عمليات التزوير الشهيرة والتي كانت تتمّ بواسطة أجهزة الدولة والتي كانت وسيلة صعبة على الكشف هي التصويت للأموات، فلم تكن تنقى الجداول الانتخابية من المتوفين وكانت تسوّد بطاقاتهم بواسطة موظفي الدولة الذين يشرفون على عملية الاقتراع، وكانت تتمّ هذه العملية بتسويد البطاقات بشكل جماعيّ ثم يتمّ وضعها داخل الصناديق أثناء عملية تشميع الصناديق وعمل محاضر الغلق، أو أثناء عملية نقل الصناديق من اللجان الفرعية إلى اللجان العامة لبدء عملية الفرز.
هذه بعض نماذج عمليات تزوير الانتخابات في المجتمعات التي قررت أن تأخذ بالشكل الديمقراطي من دون المضمون الذي كانت تتحدث عنه الآلة الإعلامية عن الانتخابات في الدول الديمقراطية ونموذجها الأعلى الولايات المتحدة الأميركية. وكان المواطنون في هذه الدول غير الديمقراطية والذين اعتادوا على تزوير الانتخابات يحجمون عن المشاركة لأنهم يعلمون نتيجة الانتخابات مسبقاً ويعرفون أنّ أصواتهم لا قيمة لها، ومن يشاركون غالباً ما كانوا يخضعون بشكل أو بآخر لآليات التزوير ومؤخراً انتصر المال السياسي على كلّ أشكال التزوير السابقة وأصبح هو الفيصل في حسم العملية الانتخابيّة.
وجاءت الانتخابات الرئاسية الأميركيّة هذه المرة لتسقط كلّ شعارات الديمقراطية المزعومة التي رفعتها الولايات المتحدة لسنوات طويلة، وليشهد العالم انهيار قيمة الديمقراطيّة كما انهارت بفضل فجاجة ترامب كلّ قيَم حقوق الإنسان التي كانت تتباهى بها أميركا أمام العالم، فقد سقطت الولايات المتحدة في براثن العنصرية والعنف والتطرّف والاعتقال وقمع المتظاهرين وتجاوزات الشرطة وأخيراً تزوير الانتخابات عبر التصويت للأموات وغيرها من وسائل التزوير التي عرفتها مجتمعات ودول الجنوب، بل ظهرت أصوات تهدّد بعدم قبول النتائج المعلنة وأنهم سيمارسون أعمال العنف ولن يترك ترامب مقعده في البيت الأبيض.
لقد سقطت الصورة الذهنيّة للديمقراطيّة الأميركيّة المزعومة أمام الرأي العام العالمي، ولا يحقّ لها منذ تلك اللحظة الحديث عن التجاوزات في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية داخل مجتمعات ودول الجنوب التي دمّرت بعضها واستولت على خيراته وثرواته تحت شعار تطبيق الديمقراطية. فالانتخابات حول العالم عبارة عن لعبة هزليّة تتحكم فيها أجهزة ومؤسسات الدولة العميقة فتعلن نجاح هذا وسقوط ذاك، اللهم بلغت اللهم فاشهد.