من “الطائف” إلى اليوم… “الداخلية” المُتحرّرة تدخل “الحجز” الطائفي؟
ألان سركيس-نداء الوطن
قبل توقيع “إتفاق الطائف”، كان لوزارة الداخلية صولات وجولات، وتولاها أشخاص مهمون في السياسة كالرئيس كميل شمعون، العميد ريمون إده، ومؤسس الحزب “التقدمي الإشتراكي” الشهيد كمال جنبلاط.
وبعد “الطائف”، كان للنائب ميشال المرّ البصمة الكبرى في الداخلية، إذ حكم لبنان من “الصنائع” وباتت لـ”الداخلية” أهمية كبرى خصوصاً أنها تشرف على الإنتخابات النيابية.
لكن للمفارقة، فان هذه الوزارة المهمة لم تكرّس لفريق واحد، وسُرّبت معلومات أن الرئيس المكلّف سعد الحريري في احدى زياراته إلى بعبدا عرض على رئيس الجمهورية العماد ميشال عون المداورة باستثناء وزارة المال التي حُسمت للشيعة، فوافق عون، لكن الحريري عاد وتراجع مقترحاً أولاً أن تكون المداورة طائفية وليست سياسية، أي ألا تذهب إلى حصة رئيس الجمهورية حتى لو شغل هذا المنصب مسيحي بحيث يسميه الحريري في حين يسمي عون وزير الخارجية السنيّ، ما أدى إلى امتعاض عون من عدم ثبات الحريري على موقف.
وفي التفسيرات، أنه أمام تمسّك “الثنائي الشيعي” بوزارة المال، فانه حصل ضغط على الحريري لعدم تخليه عن وزارة الداخلية وخروجها من الحصة السنية نظراً لأهميتها الأمنية والخدماتية، إضافةً إلى أنها تشرف على الإنتخابات في حال نجح الحريري في التأليف وبقيت حكومته إلى إنتخابات 2022.نظرة شاملة
وأمام تمسك كل طائفة بحقيبة معينة، لا بدّ من إلقاء نظرة شاملة على وزراء أُسندت إليهم “الداخلية”، وهل كانوا من فريق طائفي واحد؟.
خرج لبنان من حربه الأهلية والبلاد مدمّرة والميليشيات تُسلّم سلاحها باستثناء “حزب الله”، وبعد استشهاد الرئيس رينه معوّض تم إنتخاب الرئيس الياس الهراوي، وشكّل الرئيس سليم الحص أول حكومة بعد “الطائف” عام 1989، فتولى الماروني الياس الخازن وزارة الداخلية، وفي ثاني حكومة في عهد الهراوي عام 1990، ترأس الرئيس عمر كرامي الحكومة فأُسندت حقيبة الداخلية إلى السني سامي الخطيب، وفي 16 ايار 1992 ترأس رشيد الصلح الحكومة بعد الإنتفاضة الشهيرة على كرامي بفعل إرتفاع سعر الدولار، وبقيت حكومته إلى 31 تشرين الاول وذهبت “الداخلية” أيضاً إلى الخطيب.
مع وصول الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى السلطة عام 1992، دخل لبنان مرحلة سياسية جديدة، وشكّل حكومته الأولى في 31 تشرين الأول 1992 وبقيت إلى نهاية الولاية الأساسية للهراوي، ومنح وزارة الداخلية إلى الأرثوذكسي بشارة مرهج.بصمة المرّ
في 25 أيار 1995 شكّل الحريري حكومته الثانية بعد التمديد للهراوي وعندها بدأ عهد الأرثوذكسي ميشال المرّ في الداخلية حيث استطاع أن يبني إمبراطوريته ويكون شريكاً في حكم لبنان، وقد أشرف على أول إنتخابات نيابية بعد توقف منذ عام 1972، ليستمر في الوزارة مع الحكومة الحريرية التي شكلت بعد الإنتخابات وأبصرت النور في 7 تشرين الثاني 1996 واستمرت حتى نهاية عهد الهراوي العام 1998.
عهد جديد يطل على لبنان بعد انتخاب العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية، لكن هذا العهد لم يُغير أي شيء في وزارة الداخلية حيث استمر المر في أول وزارة شكّلها الحص، وزاد نفوذه في البلاد، وقد أشرفت هذه الوزارة على الإنتخابات النيابية الثانية عام 2000 والتي اجتاح فيها الحريري بيروت ورئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط الجبل، وعاد الحريري لترؤس أول حكومة له في عهد لحود في 26 تشرين الأول 2000، وشهدنا تغييراً شكلياً في وزارة الداخلية حيث إنتقلت من المرّ الأب إلى المر الإبن، وبات الياس المرّ وزيراً للداخلية وبقي في منصبه على رغم إجراء تغيير وزاري في 17 نيسان 2003.
وإنقلبت كل الموازين بعد التجديد للحود في 3 أيلول 2004 وخرج الحريري من السلطة وعاد الرئيس عمر كرامي وأصرّ الوزير الماروني سليمان فرنجية على الداخلية وانتزعها من المرّ بفضل الدعم السوري، وحصل في عهد فرنجية زلزال إغتيال الحريري وسقطت حكومة كرامي في الشارع، وبعد الإنسحاب السوري شكّل الرئيس نجيب ميقاتي حكومة إنتقالية في 19 نيسان 2005 وأسندت الداخلية إلى السني حسن السبع والذي حافظ على منصبه بعد إنتخابات 2005 وعاد في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة وزيراً للداخلية، واعتكف بعد غزوة الأشرفية في 5 شباط 2006 وتولى الوزير أحمد فتفت مهام الداخلية بالوكالة لكنه عاد عن اعتكافه بعد اغتيال الوزير الشهيد بيار الجميل.
تجربة “مدنية”
عهد جديد يطل على لبنان بعد 7 أيار و”اتفاق الدوحة”، عندها اتفق الجميع على إعطاء الحقائب الأمنية إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان فأسندت “الداخلية” إلى الماروني زياد بارود في حكومة السنيورة والذي أشرف على الإنتخابات النيابية بنجاح خصوصاً أنها أجريت في يوم واحد لأول مرّة بعد “الطائف”، وترك بارود بصمته المدنية في الداخلية والتي كانت تأخذ طابعاً أمنياً قاسياً، وعاد إلى الداخلية في حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى عام 2009 وبقي في منصبه حتى عام 2011 عندما أسقط “حزب الله” و”التيار الوطني الحرّ” و8 آذار حكومة الحريري.
بعد ما عرف بانقلاب “القمصان السود”، لم يعد لبارود مكان في الداخلية خصوصاً أن اسمه كان مطروحاً للرئاسة مراراً ويجب إبعاده من قبل التيار العوني، فتم الإتفاق بين سليمان و”التيار الوطني الحر” على تذكية الماروني العميد مروان شربل لهذا المنصب في حكومة ميقاتي عام 2011 حيث انفجرت في وجهه الأزمات الأمنية وأبرزها أزمة الشيخ أحمد الأسير، وبعد انفلاش الوضع واشتعال نيران الحرب السورية واستقالة ميقاتي تألفت حكومة برئاسة الرئيس تمام سلام في شباط 2014 وأسندت الداخلية إلى “المستقبل” وتحديداً إلى النائب السني نهاد المشنوق وذلك من أجل التعامل مع البؤر الأمنية وتمردّ سجن رومية، من ثم أعيدت تسميته في حكومة العهد الأولى بعد إنتخاب عون رئيساً لأنه كان إحدى شخصيات التسوية الرئاسية فعاد إلى الصنائع في حكومة الحريري عام 2016، لكنه أخرج من حكومة الحريري التي شكلها بعد الإنتخابات النيابية بفعل “الفيتو” السعودي عليه.تجربة “أنثوية”
نجح الحريري في تأليف حكومته الثانية بعد انتخابات 6 أيار 2018، وبعد تجربة بارود المدنية في “الداخلية” كانت هناك تجربة أنثوية في هذه الوزارة الأمنية بتعيين السنية ريا الحسن وزيرة للداخلية كأول إمراة عربية في هذا المنصب، لكن سرعان ما انفجرت الثورة الشعبية وحاولت الحسن الحفاظ على الطابع غير العنفي لمهمتها، خصوصاً أن لقوى الامن إحتكاكها المباشر مع الناس، لكنها فشلت، إلى أن شكّل الرئيس حسان دياب حكومته وأتى بالسني العميد محمد فهمي وزيراً للداخلية وعادت هذه الوزارة إلى طابعها الأمني.
في المحصلة، ومن حيث التوزيع الطائفي، فان هذه الوزارة بقيت مع السنة بشكل متواصل منذ العام 2014 إلى يومنا هذا، في حين أن الفترة الأكبر منذ “الطائف” حتى يومنا كانت مع المسيحيين، ولم تذهب ولو لمرة واحدة إلى الشيعة، وبالتالي لا تستطيع أي طائفة التمسك بها لأنه لا يوجد أي نص قانوني يقول ذلك كما أن العرف لم يكرس هذا المبدأ.
ومن الناحية العملية، فان هذه الوزارة حافظت على طابعها الأمني ولم تتفاعل مع “المدنية” مع بارود و”الأنسنة” مع ريا الحسن، وكل محاولات إخراجها من تركيبتها الفعلية وطابعها فشل، في حين أن السوري كان يركّز على من يتولاها في فترة إحتلاله للبنان، لذلك فإنها لا تزال من الوزارات الأساسية التي تحدد مصير الحكم في البلاد، بينما ستلعب دوراً رئيسياً في الحكومة المنتظرة خصوصاً وسط تفلت الوضع الأمني وتصاعد حدة الإحتجاجات على الأوضاع المعيشية.