ما لا يقل عن ستين شخصاً من جنسيات مختلفة حملوا ما خف وزنه وغلا ثمنه اتجهوا إلى شاطئ القلمون، وقبل غروب الشمس انطلقوا في رحلة المجهول وأملهم أن يصلوا إلى السواحل الايطالية وجهتهم الأولى، لكن قبل أن يتمكنوا من تجاوز المياه الاقليمية غرق مركبهم.
عملت القوات البحرية بمؤازرة مروحيات تابعة للقوات الجوية وطائرة “سيسنا” على سحب المركب وإنقاذ معظم من كان على متنه، حيث قُدمت لهم الإسعافات الأولية ونقل المصابون منهم، كما جاء في بيان صادر عن قيادة الجيش – مديرية التوجيه إلى مستشفيات المنطقة، فيما تواصل القوى عملياتها براً وبحراً وجواً لإنقاذ آخرين ما زالوا في عداد المفقودين.
والأحد، أكد قائد القوات البحرية في الجيش اللبناني، العقيد الركن هيثم ضناوي، خلال مؤتمر صحفي في غرفة العمليات البحرية أن “عدد الناجين بلغ 45 شخصاً وقد تم انتشال 5 جثث، بالإضافة الى الطفلة التي توفيت أمس، ومن الممكن أن يكون هناك مفقودين نحاول معرفتهم”.
ولاحظت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين زيادة في الرحلات البحرية المغادرة من لبنان ابتداء من عام 2020، مقارنة بالسنوات السابقة، بحسب ما سبق أن أدلت به المتحدثة الإعلامية باسم المفوضية دلال حرب لموقع “الحرة”.
ويشكل شاطئا الميناء والقلمون، شمالي لبنان، نقطتي عبور رئيسيتين نحو “حلم” الحصول على اللجوء في إحدى الدول الأوروبية. وبحسب حرب “شرع أكثر من 1570 فردا أو حاولوا الشروع في مثل هذه الرحلات بين يناير 2021 ونوفمبر 2021. ومن بين الرحلات 1241 رحلة لمحاولة الوصول إلى قبرص، في حين لم تتسلم المفوضية خلال شهر ديسمبر 2021، أي تقارير مؤكدة عن محاولات رحلات للقوارب، ويرجع ذلك على الأرجح إلى سوء الأحوال الجوية”.
مشاهد تدمي القلوب
خارج ميناء طرابلس وقف عدد من أهالي المفقودين للاطمئنان عن أقاربهم، منهم مصطفى الجندي (29 سنة) ووالدته بارعة صفوان (من بعلبك سكان طرابلس)، اللذان كانا على متن المركب في الأمس، وبحسب ما قالته بارعة التي فقدت ابنتيها في البحر “لم يكن لدي النية في السفر كنت أرتب المنزل حين تلقيت اتصالاً من ابني الأصغر ابراهيم أطلعني أن هناك مركباً سينطلق إلى ايطاليا وفيما إن كنا نريد الهجرة من دون أي تكلفة مادية، وافقت وابنتي على الفور، واقنعت مصطفى بالأمر ليقع بعدها ما لم يكن بالحسبان”.
صراع مصطفى للبقاء على قيد الحياة باد على جبينه من خلال جروح عدة أصابته، قال بغصة “كانت الأمور تسير على ما يرام، لكن قبل أن نقطع المياه الاقليمية طاردتنا ثلاث زوارق لخفر السواحل، استمر سائق المركب الذي كنا على متنه في القيادة إلى وجهته فما كان من إحدى الزوارق الا أن اصطدم بمقدمة مركبنا، المرة الأولى كانت تحذيرية والثانية أغرقت المركب”.
لم يكن أحد يرتدي سترة نجاة، بحسب ما أكدت بارعة “عشت لحظات لا يمكن وصفها، صراخ الأطفال لا يزال يقرع أذني، الموت كان يحيط بنا من جميع الاتجاهات، وها أنا أقف اليوم هنا من دون أن أعلم مصير ابنتي، كان حلمنا الهروب من وطن لا يؤمن لشعبه أدنى حقوقه ومع هذا استكثر الجيش علينا ذلك”، مؤكدة “رغم مرارة التجربة سأعاود الكرة إن سنحت لي الفرصة فبين أن أعيش على قيد الموت في لبنان وأن أصارع الموت لأعيش حياة طبيعية في بلد آخر سأختار الخيار الثاني بالتأكيد”.
وفي الماضي، كانت قبرص، بحسب ما سبق أن قاله أحد المهربين لموقع “الحرة”، “هي الوجهة للمهاجرين من لبنان، بسبب قربها من الميناء حيث لا تستغرق سوى بضع ساعات للوصول إليها، أما الوجهة الثانية فكانت اليونان التي تحتاج إلى نحو يومين لبلوغها، ومنذ مدة أصبحت إيطاليا هي الوجهة كونها نقطة عبور إلى أوروبا، حيث لدينا عملاء فيها يساعدون من وصلوا من خلالنا للسفر إلى أي دولة أوروبية يرغبون بها شرط دفع 5 آلاف دولار إضافية”.
المشهد الكارثي كان أمام “مشرحة” مستشفى طرابلس الحكومي، حيث وصلت جثث خمس ضحايا قبل ظهر اليوم، بكاء وعويل واغماء، فتاة علمت بلفظ والدها آخر أنفاسه لم تتمالك نفسها وفقدت وعيها، كيف لا وقد خسرت سندها، واخرى تبكي طفليها طالبة من عمتهما نفي أنهما كانا مع والدهما على متن المركب من دون علمها.
بعدما فجع بخبر وفاة شقيقته حنان مرعب، وقف مظهر على بعد أمتار من “المشرحة” متكئاً على سيارة محاولاً حبس دموعه في عينيه، قال لموقع “الحرة” والغصة تخنق صوته “كانت حنان وولديها على متن المركب إضافة إلى شقيقتي مهى الحامل وابنتها وزوجها محمد ضناوي، تأكدنا من وفاة حنان ليبقى مصير شقيقتي الثانية وأولادهما مجهولاً”.
حتى الآن لم يطلع مظهر والدته على الكارثة “لا تعرف أن ابنتيها وأولادهما وصهرها الذي يعمل حارساً في احد السوبرماركت كانوا على متن المركب”، مضيفاً “زوج حنان عسكري في الجيش لذلك لم يهاجر معها، لكن كان لديه نية اللحاق بها عندما يسوي وضعه، وقد أطلعونا أنهم قرروا الهجرة لكن لم نكن نعلم ساعة انطلاقهم لنصدم بهول الفاجعة”.
كما وقفت نسرين تبكي 5 من أفراد عائلتها، هم كما قالت “خالتي هدى الجمل وابنتها ليليان وزوجة ابنها حنان وولديها” مشيرة إلى أنه “نحن من الضنية، قبل أيام أطلعتني خالتي على قرارهم وأنهم جمعوا المال بدل تكلفة الرحلة، ودعتهم من دون أن أعلم تاريخ سفرهم بالتحديد، لأصعق في الأمس بالخبر” وأضافت “تمكن زوج خالتي وهو في ذات الوقت عمي ويدعى يوسف وابنه أسامة من إنقاذ حياتهما”.
وأكدت نسرين “الوضع الاقتصادي الصعب ما دفعهم إلى المخاطرة وركوب الأمواج، خالتي قررت الهجرة من أجل عائلتها في حين أن زوجها مريض قلب، لا أعلم كيف سيتمكن من إكمال ما تبقى له من عمر من دونها فهو متعلق بها إلى درجة كبيرة”.
“جريمة موصوفة”
ويشهد لبنان منذ صيف 2019 انهيارا اقتصاديا متسارعا، حيث فقدت “العملة المحلية حوالي 82 في المئة من قوتها الشرائية مقابل الدولار، ما بين عامي 2019 و2021” بحسب ما أعلنته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا “الإسكوا”.
وفي سبتمبر الماضي أشار تقرير لـ”الإسكوا” إلى أن “الفقر تفاقم في لبنان إلى حد هائل في غضون عام واحد فقط، إذ أصبح يطال 74 بالمئة تقريبا من مجموع السكان، وإذا ما تم أخذ أبعاد أوسع من الدخل في الاعتبار، كالصحة والتعليم والخدمات العامة، تصل نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد إلى 82 بالمئة”.
المركب الذي غرق بحسب ما أكد العقيد الركن ضناوي “صناعة 1974 صغير طوله عشرة امتار وعرضه 3 امتار والحمولة المسموح بها هي 10 اشخاص فقط، ولم يكن هناك سترات إنقاذ ولا أطواق نجاة وحاولنا أن نمنع المركب من الانطلاق ولكنه كان أسرع منا”.
وأضاف ضناوي أن “حمولة المركب لم تكن تسمح له بأن يبتعد عن الشاطئ ولم يقتنع من عليه من عناصرنا الذين يعانون نفس معاناتهم وقائد المركب اتخذ القرار بتنفيذ مناورات للهروب من الخافرة بشكل أدى إلى ارتطامه”.
وفي منطقة القبة جلس محمد دندشي “أبو جهاد” أسفل أحد المباني مع مجموعة من أهالي المنطقة منتظراً أي معلومة عن أفراد عائلته وقال “فقدت أحفادي التسعة، ماذا عساي أن أقول، لا أعلم شيئاً عنهم سوى أن الجيش تسبب بغرقهم”.
وأضاف “كنت على علم أن أبنائي الثلاثة بلال ورائد وعميد سيهاجرون، باعوا أثاث منزلهم واشتروا مع أبناء المنطقة المركب، وانطلقوا في الأمس مع زوجاتهم وأولادهم على أمل الخلاص من جحيم هذا البلد وإذ يرتكب الجيش جريمة موصوفة بحقهم ويغرق المركب غير آبه بأرواح من على متنه”.
وسبق أن وصف البنك الدولي أزمة لبنان بأنها “الأكثر حدة وقساوة في العالم”، مصنفاً إياها ضمن أصعب ثلاث أزمات سجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر.
وفي تقرير لـ”اليونيسف” صدر في شهر يوليو الماضي، تبين أن “أكثر من 30 في المئة من أطفال لبنان ينامون ببطون خاوية، لعدم حصولهم على عدد كاف من وجبات الطعام، في حين لا تملك 77 في المئة من الأسر ما يكفي من غذاء أو مال لشراء الغذاء”.
وحسب المهاجرين على قوارب “الموت” الذين تحدثت معهم مفوضية اللاجئين، ظهر، كما قالت حرب “غالبيتهم سوريون، يليهم لبنانيون وعدد قليل من الفلسطينيين وجنسيات أخرى”.
وأضافت “خلال السنوات السابقة، كانت الغالبية العظمى من المسافرين من السوريين، بينما انضم في عامي 2020 و2021 عدد من اللبنانيين إلى هذه الرحلات”.
واستنادا إلى الأفراد الذين تواصلت معهم مفوضية اللاجئين ممن تم اعتراضهم أو إنقاذهم أو إعادتهم إلى لبنان، ظهر، كما قالت حرب أن الأسباب التي تدفع إلى مغادرة هذا البلد هي “اليأس، وعدم القدرة على البقاء على قيد الحياة في لبنان بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، وندرة الوصول إلى الخدمات الأساسية وفرص العمل المحدودة، ووجود أقارب أو أفراد لهم في البلدان المقصودة”.
متابعة رسمية
ومنذ اعلان غرق الزورق، تسود حالة من الغضب والتوتر معظم شوارع طرابلس مترافقة مع إطلاق نار، وقد نفذت وحدات من الجيش اللبناني انتشاراً في عدد من المناطق لاسيما في منطقتي القبة والتبانة.
وتابع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون التفاصيل المتعلقة بالحادثة منذ ليل أمس، وقد تم إطلاعه على وقائع عمليات انقاذ الركاب الذين نجوا من الغرق وتأمين العلاج اللازم لهم، وقد طلب من الاجهزة القضائية والعسكرية المعنية فتح تحقيق في الملابسات التي رافقت غرق الزورق.
واليوم أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، الحداد الرسمي غداً الاثنين على ضحايا المركب، طالباً تنكيس الأعلام المرفوعة على الادارات والمؤسسات الرسمية والبلديات كافة حداداً، وتعديل البرامج العادية في محطات الإذاعة والتلفزيون بما يتوافق مع المناسبة الأليمة.
كما أجرى ميقاتي، اتصالا بوزير الشؤون الاجتماعية هكتور حجّار، وطلب منه التوجه إلى طرابلس وتقديم كل ما يلزم لعائلات الضحايا، وكلّف الأمين العام للهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير، بأن يكون إلى جانب الأهالي المفجوعين، وأن يقدّم كل المساعدات الممكنة لهم.
من جانبه أعرب وزير الدفاع موريس سليم، في بيان عن “ألمه للمأساة التي نتجت عن غرق الزورق الذي كان يحمل ركابا لبنانيين وغير لبنانيين حاولوا مغادرة المياه الاقليمية اللبنانية بطريقة غير شرعية، وقدم التعازي الى ذوي الضحايا”، متمنياً “الشفاء العاجل للجرحى، والعثور سريعا على المفقودين ممن كانوا على متن الزورق”.
وأكد أن “الظروف الصعبة التي دفعت ركاب الزورق إلى مغادرة لبنان بصورة غير شرعية، يعاني منها معظم اللبنانيين نتيجة الأزمات المتلاحقة التي أصابته، تحاول الحكومة معالجة تداعياتها، لكن لا يجوز أن تدفع بالمواطنين إلى الوقوع ضحايا تجار ومهربين يبتزونهم ويغررون بهم لدفعهم إلى مغامرات خطرة غير مضمونة النتائج، كتلك التي شهدنا فصلا من فصولها المؤلمة ليل أمس قبالة شاطىء طرابلس “.
وأشار سليم إلى أن”حجم المأساة وشدة الغضب لا يتم التعبير عنهما بالتعرض للمؤسسة العسكرية التي قام رجالها بواجبهم في إقناع ركاب الزورق بعدم إكمال طريقهم والعودة إلى الشاطىء، وإذا كانت رافقت معالجة هذه الحادثة المؤلمة ملابسات لا تزال موضع جدل، فإن التحقيق الشفاف الذي تقوم به قيادة الجيش والأجهزة العسكرية والقضائية المختصة، كفيل بجلاء الحقيقة التي نحرص على تبيانها كاملة لوضع الأمور في نصابها الحقيقي وتحديد المسؤوليات وقطع الطريق أمام أي استغلال لدماء الضحايا ومصير المفقودين وعذابات ذويهم”.
وكان سليم أطلع قائد الجيش العماد جوزف عون، على تفاصيل ما حصل والظروف التي رافقت غرق الزورق، حيث طلب الوزير التحقيق في كل الملابسات التي رافقت الحادثة، وجلاء الحقيقة.