مخاطر حروب الهويات والأيديولوجيات الدينية المتطرفة “بعد انهيار الاتحاد السوفياتي جرى الحديث عن نهاية الأيديولوجيا لكن الواقع أن ما نشهده هو صعود الأيديولوجيا الدينية في خدمة أهداف سياسية”
دورية للشرطة الفرنسية أمام بازيليك نوتردام في مدينة نيس التي شهدت هجوماً إرهابياً الخميس الماضي (رويترز)
حين أصدر صموئيل هنتغنتون كتاب “صدام الحضارات”، جاء الاعتراض على النظرية من معظم الاتجاهات. يورغن هابرماس قال “صدام الحضارات نظرية خاطئة. المشكلة هي الأصولية الدينية”. أمين معلوف أصدر كتاب “الهويات القاتلة” ثم كتاب “غرق الحضارات”. والقاسم المشترك بين الردود كان التركيز على “حوار الحضارات”. وحدها التيارات المتطرفة رأت في النظرية ما يبرّر تصرفاتها الإرهابية المتوحشة ضد المختلفين معها وعنها. هنتغنتون أصدر قبل رحيله كتاب “مَن نحن؟” حدد فيه ثلاثة مفاهيم لأميركا: “وطنية، إمبراطورية وكوزموبوليتية. في الوطنية تبقى أميركا. في الإمبراطورية تعيد صنع العالم. وفي الكوزموبوليتية، يعيد العالم صنع أميركا”. ومن هذا المنطلق، دعا إلى “وجوب حماية الهوية الأميركية من اللاتينيين، خصوصاً المكسيكيين”. في المقابل، عبّر هابرماس عن توجّه أوروبي بالدعوة إلى “حماية الهوية الأوروبية من التهديد الأميركي”.
القرن الـ21
في العقود الأخيرة من القرن العشرين، نُسب إلى الأديب الكبير أندريه مالرو، وزير الثقافة أيام الجنرال ديغول، القول إن “القرن المقبل يكون دينياً أو لا يكون”. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي جرى الحديث عن نهاية الأيديولوجيا. لكن الواقع أن ما نشهده هو صعود الأيديولوجيا الدينية في خدمة أهداف سياسية. حرب هويات. أيديولوجيا تغطي صراع المصالح. وأيديولوجيا تشكّل عصب الصراع الجيوسياسي وحتى الجيو-اقتصادي. هكذا كانت الأيديولوجيا النازية والفاشية والشيوعية والليبيرالية. وهي الآن الأيديولوجيا الدينية كسلاح للجمهورية الإسلامية في إيران منذ ثورة الخميني القائل “كل نظام غير إسلامي هو شرك والحكم فيه طاغوت”. وسلاح للعثمانية الجديدة التي تخدم أهداف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حليف “الإخوان المسلمين” الذين صارت تركيا بالنسبة إليهم البديل من دور مصر بعد سقوط حكمهم في أرض الكنانة. وهم يردّدون قول مؤسس “الإخوان” حسن البنا “ليس هناك مفهوم المواطن بل مفهوم المسلم”. وسلاح استخدمته الحركة الصهيونية في الاستيلاء على فلسطين. وسلاح يستخدمه حزب “بهاراتيا جاناتا” الهندي بزعامة رئيس الوزراء ناريندرا مودي المؤمن بنظرية “التفوق الهندوسي”. وسلاح في يد اليمين الديني المسيحي المتشدد في أميركا وأوروبا. وسلاح في أيدي التيارات الأصولية في الإسلام السياسي مثل “داعش” و”القاعدة”، سواء في أوروبا أو في العالم الإسلامي، خصوصاً في الشرق الأوسط.خلفية التوتر
وضمن هذا الإطار، يجب النظر إلى ما يحدث في فرنسا على خلفية أمرين: أولهما سياسي هو قرار الرئيس إيمانويل ماكرون حلّ مشكلة “الانفصالية الإسلاموية” عن المجتمع وقيم الجمهورية. وثانيهما “أيديولوجي” بمعنى ما، وهو سوء تقدير لحرية التعبير من أستاذ التاريخ صموئيل باتي في عرض صور مسيئة للنبي الكريم محمد بما يمسّ مشاعر ملياري مسلم في العالم، وخطورة ردّ فعل تمثّل بإقدام لاجئ شيشاني على قطع رأس الأستاذ. وهكذا بدأ تحريك العصبيات وحرب الهويات، بحيث تكاد تضيع أصوات العقلاء الداعين إلى الحوار في ضجيج الردود العنيفة التي يقوم بها المتشددون. ولا أحد يربح في هذه الصراعات والحروب. لا مَن يخوض معركة ضد “الأيديولوجيا الإسلامية، لا ضد الإسلام” على حدّ التعبير الذي استخدمه وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درامانان. ولا مَن يخوض حرب الأيديولوجيا الدينية بالعنف وقتل الناس في أماكن العبادة أو الشارع وقذف السفارات الفرنسية بالحجارة، كأننا في بداية التاريخ والأديان، وفتّش عن أردوغان وسواه.
يقول فنسنت غيسر، وهو عالم اجتماع متخصص في الإسلام في إحدى جامعات مرسيليا إن “النقاش الحالي يعكس فشل النموذج الفرنسي في الاندماج عبر القطع مع الدين لأنه قاد إلى العكس”. ولا بد من إعادة النظر في النموذج، سواء بالنسبة إلى الجمهورية العلمانية أو بالنسبة إلى المواطنين المسلمين فيها. لكن الواقع هو أن المشكلة أكبر وأعمق عبر حرب الهويات والأيديولوجيات الدينية المتطرفة.