هل من حرب أهلية في فرنسا؟
سلام الكواكبي-العربي الجديد
يُخيّل لمن يتابع وسائل التواصل الاجتماعي العربية، وتعليقاتها على الأحداث الفرنسية التي تمثّلت، أخيرا، بجرائم قتل وذبح بشعة قام بها إرهابيون متطرفون دينياً وقابلتها تصريحات سياسية مليئة بالرهاب من الإسلام وبالعنصرية الفجة، بأن حرباً أهلية قائمة، أو ستقوم لا محالة، في فرنسا. يتجدّد هذا الاستنتاج نفسه إن توقفت أيضا المتابعة عند النقاشات الجارية فعلياً في وسائل الإعلام الفرنسية المرئية، خصوصاً منها من يبحث طوال اليوم عن التعليق المباشر والحامي على الخبر من دون توقف ومن دون تعمّق، فصارت إذاً مكونات هذه الحرب الأهلية متوفرة افتراضياً بشدة في طريقة طرح الخبر، وفي أسلوب التعليق عليه، وفي عملية بناء الاستنتاجات من خلاله.
لكن، ولحسن الحظ، فقد مُنح الإنسان العاقل ملكة القراءة التي تتجاوز السطر أو السطرين الفيسبوكيين أو التغريدات المتطايرة فوق رؤوس الناس كالشظايا القاتلة في “تويتر” مبعث التوتّر. ما يدفع هذا الإنسان إلى البحث عن نصوص تحترم ذكاءه، ولا تعتبره مجرّد حقل تجارب لحفلات تهييج وإثارة، لربما لا يعرف حتى من يقومون بتنشيطها ما هي أهدافهم منها في كل الأحوال. ومن حسنات الديمقراطية أنه يمكن للعاقل المُستفَّز من محاولات تهييجه أو تدجينه المستمرة أن يختار مصادر بناء فكره وتعزيزه، والتي تساعد، جزئياً، إضافة إلى قناعاته المكتسبة، في استجابته الفاعلة على الأحداث الجارية.
وبالرجوع إلى ما تم نشره في الأسابيع الماضية من نصوص سياسية جادّة في كبريات الصحف الفرنسية، يمكن، وبنسبية معقولة، التوقف عند ابتعاد أصحابها عن الخوض في حفلات ردات الفعل القائمة، والتي تعتمد على التسابق الأعمى في البوح بالجمل الصادمة، وفي إطلاق التوصيفات الخارجة من عقال العقل والمنطق. نصوصٌ هادئة، ومهما اختلفت تحليلاتها أو مواقفها، إلا أنها لا يمكن أن تتحمّل مسؤولية الخلط في المفاهيم أو تشويه المعايير. وهذا يتم على هامش انفجارٍ إعلاميٍ، حيث غصّت بعض وسائل الإعلام المرئية بالخطاب التحريضي الممتلئ بالعنصرية وبالتنميط، كما حملت تصريحاتٌ لا مسؤولة لمسؤولين فرنسيين الجزء اليسير منه.
من خلال متابعة هذه النصوص “الجادّة” إذاً، يمكن للمهتم بأن يُلِمَّ جزئياً بالمشهد الفكري الذي يبني الوعي العام على المدى الطويل، لأن في الآجال القريبة، وحتى المتوسطة، للتهييج والتحميس فرص عديدة. نحن نجد إذاً أن عموم رجال الفكر والأدب والفلسفة كانوا عقلاء في تحليلاتهم، وبعيدين عن الإثارة ما استطاعوا إليه سبيلاً. ومن المؤكّد أن بعض “فلاسفة” الإعلام، وبعض الروائيين الباحثين عن الشهرة، وبعض كارهي الذات من أصول عربية أو مسلمة من المثقفين، قد تنافسوا في صياغة العبارات التي تُحاكي ميولاً تبسيطية، تُجرّم مجموعة بأكملها، وهي هنا المسلمون، وتحمّلها مسؤولية عدم الاندماج والابتعاد عن مبادئ الجمهورية، والرغبة في تطبيق الشريعة، رغما عن أنف مواطني هذه البلاد المؤمنين (كلّهم؟) بالعلمانية كما ترد في النص “المقدس”.
التوقف عند المفاهيم ومحاولة عرضها مجردة، ومن ثم محاولة إسقاطها على حدثٍ بعينه، تعتبر رياضة فكرية فرنسية رفيعة الأداء، ومهما اختلف صاحب الرأي مع رأي من يكتب، إلا أن هذا الخلاف لا يمكن إلا أن يكون إضافة تراكمية في جدلية بناء الوعي. وقد حفلت الصحف الجادّة، كما مواقعها الإلكترونية، بنصوصٍ استعرض من خلالها “مقترفوها” تجارب تاريخية قاسية ضربت فرنسا، أو ساهمت السياسات الاستعمارية السابقة لفرنسا في نموها. كما انهمك علماء الأنسنة في سرد الروايات المرتبطة بأزماتٍ سابقةٍ، تجاوزتها البلاد من خلال تحكيم العقل والمنطق. واستغرق بعض علماء الاجتماع في محاولات جدّية لفهم أسباب التطرّف وانتشاره بين أوساط بعينها في فرنسا أكثر من بلدان أوروبية أخرى.
نصوصٌ ستتكاثر في الأيام القليلة المقبلة، لا يمكن لمتابعها إلا أن يستفيد منها جزئياً أو كلياً مهما اختلف معها فكرياً أو استنتاجياً. ولكن تبقى المشكلة في أن تصل إلى عموم القراء أو أن يصلوا هم لها. ففي ظل وجود وسائل التواصل الاجتماعي، المغرية والمثيرة، والتي تلعب على أوتار العواطف، فقد أضحت قراءة مقال جادٍّ مهما كان قصيراً ومقتضباً عملية شاقة بالنسبة لبعضهم، فهم صاروا يرغبون في الحصول على “زبدة” الكلام مهما كانت عفنة.
لا حرب أهلية في فرنسا كما يظن بعضهم ويتمنّى آخرون، ولن ينجح السعي إلى تعزيز انقسامٍ عمودي في المجتمع الفرنسي، ما دام المجتمع المدني عريق الخبرة وكثيف التجارب ما زال قادراً على ممارسة دوره وسيطا فاعلا. وستفشل المساعي إلى جعل التنميط مقبولاً، ما دامت دولة القانون ما زالت قادرة على وقف ميول بعض السياسيين إلى “التوقف عن لغة السلام”، والسعي حثيثاً باتجاه لغة المواجهة غير المحسوبة. ربما صارت الحرب الأهلية واقعاً افتراضياً على وسائل التواصل الاجتماعي عموماً، ولكنها ليست واقعاً معاشاً على الرغم من نسبة التوتر والترقب العالية المهيمنة على المشهد الفرنسي. هذه المرحلة ستمر، آجلاً أو عاجلاً. وسيعتمد ذلك أساساً على تقاليد فكرية ترجع بنا إلى مخاضات الثورة الفرنسية، والتي ما زالت قادرة على تحفيز الحوار وعلى الانفتاح على الآخر المختلف.