٧ تشرين يوم نكبة إسرائيل
“إعقلوا وتأدبوا” قالها السيد حسن نصرالله سابقاً، ولكنهم تمادوا بتجاوزاتهم واستيطانهم وانتهاكاتهم فكان الطوفان ليترجم الأقوال الى أفعال والصبر الإستراتيجي للمقاومة يتحول لغضب استراتيجي..
ولا شك أنه الطوفان أذهل العالم أجمع وأكثر ما يمكن ملاحظته أنّ عنصر المباغتة والمفاجآة كان أساسياً إضافة إلى اختيار التوقيت الذي لا شك ذو أهمية كبرى، وبالإضافة إلى كونها عملية مركبة ارتكزت على تكتيك استراتيجي فاق كل الخوارزميات ولكنه لم يكن مفاجئاً لمن آمن بأنّ فينا قوة لو فعلت لغيّرت وجه التاريخ. ترافقت هذه التطورات مع تطور في الأساليب الإعلامية وباتت معركة إعلامية وميدانية سياسية وعسكرية نفسية وفكرية، فعلا معها منسوب الإرادة والإنتماء وباتت فلسطين أقرب لكل المقاومين.
والتاريخ يشهد الكثير من محطات المقاومة التي انكسرت فيها هيبة العدو الصهيوني، منذ حرب السادس من تشرين الأول 1973 مروراً بعملية الويمبي التي قام بها الشهيد خالد علوان ورسمت معالم تحرير بيروت عام 1982 وعملية تدمير السفارة الأميركية ومقر مشاة البحرية الأميركية في لبنان عام 1983 التي قادها الحاج الشهيد عماد مغنية، وتحرير الجنوب عام 2000 ونصر تموز 2006 وسيف القدس ونفق الحرية 2021 ووحدة الساحات 2022 وثأر الأحرار 2023 ووحدة الجبهات، وصولاً إلى طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023 فكان ما بين التشرينين تراكم لقوة المقاومة وفرض قواعد إشتباك جديدة، فباتت قلعة المقاومة المصونة بدماء شهدائها وتضحياتهم منيعة بينما بات بيت العدو أوهن من بيوت العنكبوت..
استراتيجياً، تميّزت عملية طوفان الأقصى بكونها عملية خلطت الأوراق الدولية في لحظة تاريخية أوقفت عجلة التطبيع الذي كان قاب قوسين أو أدنى مع المملكة العربية السعودية ليقول الفلسطينيون أنّ الكلمة لهم، ويقلبون الموازين الإقليمية والدولية ولا يمكن أن يتم رسم معالم العالم الجديد قبل تصحيح خطأ معالم العالم القديم المتمثّل بـ”إسرائيل”، فكانت الكلمة الفصل لفلسطين بإنّ هذا الخطأ التاريخي لا بدّ وأن يتم تقويمه من جديد، فكانت القراءة الاستراتيجية للتحولات الجيواستراتيجية الدولية من قبل قوى المقاومة قراءة متزنة وهادئة منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا والاصطفافات الدولية الجديدة لخلق وضع جديد التقطته المقاومة وعملت على إنضاجه بعملية أذهلت العالم أجمع، وجعلت عقارب الساعة العالمية تضبط على توقيت فلسطين فأعادت للقضية عزّتها، وأنّ أي تغيير في النظام العالمي لا بدّ وأن يمر من فلسطين، وبريطانيا التي زرعت هذا الكيان عام 1948 وروته أميركا منذ ذاك الحين إلى اليوم بات آيلاً للسقوط في رأس الهرم العالمي وطفلهما المدلل بطبيعة الحال سيسقط أيضاً.. وحينها يمكن القول بأننا أمام معالم عالم جديد تشارك في رسمه قوى المقاومة وإرادتها.
عسكرياً، تميّزت عملية طوفان الأقصى بكونها استلهمت الكثير من دروس التاريخ والعبر، واستفادت من تراكم القوة فكان الردع والتنسيق والتخطيط والهجوم أعمدة أساسية في هذه العملية أسقطت فيها أعمدة النظرية الأمنية للعدو المتمثلة بالردع والإنذار والدفاع والحسم، فحسمت كتائب القسّام المعركة منذ ساعات الصباح الأولى بالاعتماد على عنصر المفاجأة والمباغتة وهو عنصر أساسي لإحراز أي تقدم، والأهم أنّها كانت مفاجأة ثلاثية برية وجوية وبحرية أصابت الكيان بالصميم وتساقطت “الصور الكرتونية” للجيش الذي يقهر ويأسر ويختبئ في الحمامات ويستصرخ الويلات، فكانت عملية مركبة عسكرية ونفسية واستخباراتية وإعلامية ناهز عدد القتلى الألف قتيل ويزيدون وأكثر من ألفي جريح ومئات المفقودين وعشرات الأسرى ضباط وجنود ومستوطنين كل ذلك خلال 60 ساعة فقط هاجم خلالها نحو ألف مقاتل لخمسين نقطة وإحدى عشرة قاعدة عسكرية وعشرين مستوطنة، والتمركز بالمستعمرات وقتال الشوارع فهم أبناء الأرض تعرفهم وتميزهم عن سواهم فترشدهم إلى مبتاغهم بتحريرها ممن دنّسها ويدنسها..
إعلامياً، تميّزت عملية طوفان الأقصى بكونها اعتمدت على الدقة بنقل الحدث بالصوت والصورة منذ بدء العملية وما أن تحقق تقدّم حتى تصدر غرفة الإعلام العسكري فيديو حول هذا التقدم وبطريقة حرفية حاكت جمهورها وعدوها أظهرت قدرات المقاومة منذ التحضير إلى التنفيذ فغزت العقول وكسبت القلوب متقنة أساليب الحرب الناعمة وأدواتها وبتوالي البيانات بالصوت والصورة أرهبت الكيان وداعميه وباتوا بانتظار البيان رقم (..) وبات أبو عبيدة الناطق الرسمي باسم كتائب القسام ببياناته المتعاقبة مؤثراً بالكيان المؤقت وبالإعلام العبري الذي بات يتابعه ويصدقه أكثر مما يتابع بيانات وتصريحات قادته وهذا ما جعل أبو عبيدة يوجه كلامه لـ”المستوطنين” لمعرفته المسبقة بأنهم ينتظرون ما يقول ليصدقوه ويكذبوا قادتهم ناهيك عن المراسلين الذين نقلوا الحدث من أرض الميدان في المستعمرات والمشاهد التي أذهلت العالم وأعادت للكرامة معناها، فكان طوفان الكرامة في مشهدية لم تكرر منذ عام 1973.
ولم يحدّد طوفان الأقصى مرحلة جديدة في قواعد الاشتباك فقط بل قلبت المعادلة وأعادتها لشكلها ومضمونها الطبيعي في توازن الردع، بل توازن الهجوم الاستراتيجي والهدف الحقيقي واضح وجلي بتثبيت معادلة الانتصار والتحرير فقد انتهى زمن السماح وغض الطرف ولّى إلى غير رجعة، والزمان الآن هو زمان المقاومة ومكانها، لتتكرّس المقاومة وفق مفهوم ترجمه السيد نصر الله بتهديده “الإسرائيليين” بالقول: “إذا اعتديتم فإنّ كل جنودكم ومستعمراتكم في عمق العمق ستكون ضمن أهداف ردّنا”، وقد انتقل الرّد وبات طوفاناً في وضح النهار وفي العمق، وهذه هي ثقافة المقاومة التي لا تكلّ ولا تهدأ حتى إعادة كل الأرض.
ألف مقاتل أصاب الكيان في الشلل فكيف الحال إذا انقلب طوفان الأقصى إلى طوفان المحور من سورية والعراق ولبنان وحتى اليمن وماذا لو قامت المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله بتنفيذ وعودها بالدخول إلى الجليل الأعلى وكان أبطالها 4000 آلاف مقاتل أو أكثر، وكم سيكون عدد المستوطنين الذين سيهربون إضافة إلى من هرب من الطوفان، وكم عدد المراكز والقواعد العسكرية الإسرائيلية التي ستدمر، إضافة إلى ما دمرته كتائب القسّام.. ومع قطع الكهرباء والماء عن أهالي غزة فماذا عن منشآت الطاقة في الأراضي المحتلة ومنظومات إنتاج الكهرباء ومحطات تحلية المياه وضخها، ومنشآت تخزين الوقود أليس من الممكن أن تكون ضمن بنك أهداف صواريخ المقاومة.. وماذا عن مفاعل “ديمونة” ألن يكن ضمن بنك الأهداف! هذا إن لم نقل حاملة الطائرات التي أرسلتها الولايات المتحدة الأميركية لمؤازرة الكيان لنسمع مجدداً “أنظروا إليها تحترق!”، وماذا عن الجليل أليس بمقدور المقاومة خرق حدود العدو الهشة والوصول بسهولة إلى الجليل، خاصة وأنّ تحرير أي جزء من الجليل عبر الأراضي اللبنانية سيوقع ويدبّ الرعب الكامل في “إسرائيل” المرعوبة أصلاً من سقوط مستعمراتها كأحجار الدومينو في طوفان الأقصى.
وفي حال أخذنا سيناريو المعركة البرية رأينا بالأمس، دخول بعض المقاومين في الجنوب اللبناني إلى الجهة الأخرى، والذي أدى إلى إصابات في صفوف العدو وكشفت هشاشتهم، ناهيك عن مناورة “كسارة العروش” التي حاكت دخول الجليل الأعلى بكل ما قد تختبره قوات حزب الله من سيناريوهات، وهنا تكمن الخشية الإسرائيلية من قدرة رجال حزب الله على التكيّف مع أي واقع جديد قد تفرضه المعارك العسكرية وأكثر من ذلك قلب المعادلة لصالحهم.
إنّ فائض القوة التراكمي للمقاومة في ظروف توافرت فيها الشرعية والملاذ والدعم الشعبي وكذلك العقيدة والتي هي عوامل ملائمة ضرورية لنجاح كل مشروع مقاوم، وفي الحفاظ على ترسانتها الصاروخية وتدعيمها بتكنولوجيا الطائرات المسيرة، باتت المعركة الشاملة وشيكة، ورهن إشارة من إصبع السيد فالقوة تحكم ومن يملك القوة يملك استرداد حقه..
ورغم كل إجراءات كيان الاحتلال وأهدافه الوهمية، لكن وكما اجتاز السيد حسن نصرالله الذي توجته الانتصارات والتضحيات رمزاً لها، المرحلة الأولى من صعود المقاومة بصفتها قوة التحرير والردع في مواجهة خطر الاحتلال، فإنه اجتاز المرحلة الثانية مع سفن كسر الحصار التي لم تكن ببعيدة عن “سيف القدس” و”وحدة الساحات” و”ثأر الأحرار” ولا ننسى “نفق الحرية” كأكبر دليل على أن الحرية قاب شوكة أو مسمار، وسيجتاز المرحلة الثالثة بطوفان الأقصى وتحرير الأسرى وتحرير فلسطين.. وسترى غولدا مائير بأنّ الصغار كبروا وأرهبوا أبنائها ودبّوا في صدورهم الذعر مستيقنين من النصر والتحرير وقسماً سنعبر آمنين..
الكاتب:
سماهر عبدو الخطيب
-كاتبة صحافية سورية وباحثة في العلاقات الدولية والدبلوماسية.