موضوعات وتقارير

17 تشرين: خروج الشباب على الولاء للزعماء

 

مكرم رباح -أساس ميديا

تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً يُنشر على حلقات متتابعة، ويعيد قراءة وجوه الانتفاضة ونتائجها. وهنا حلقة سابعة عن نجاح هذه المحطة في اطلاق حركة الشباب الذين فضلوا وطنيتهم اللبنانية على الولاء للزعماء، وكذلك عن سبب فشل الثورة.

 

في خضمّ ترسيم الحدود البحرية وتطبيع حزب الله والمنظومة الحاكمة مع إسرائيل والصخب الذي رافق هذا العمل الذي يصفه رافضوه بالـ”دنيء”، تمرّ ذكرى ثورة 17 تشرين مشوبة بخجل يطغى على أفكار التحرّكات المدعوّ إليها في المناسبة، إضافة إلى اقتناع العدد الأكبر من اللبنانيين بفشل ثورتهم في تحقيق المرجوّ منها، بينما قسم منهم يتخوّف من أن تكون هذه الاحتجاجات ساهمت في تسريع تظهير الأزمة التي أوصلتهم إلى الفقر المدقع.

فشلت ثورة 17 تشرين بسبب عوامل عدّة: أهمّها إصرار شطر كبير من اللبنانيين على تحييد حزب الله وسلاحه عن معركتهم مع المنظومة الفاسدة. وسبب ذلك تعلّقهم بأمل ساذج ينتظر صحوة ضمير الحزب إيّاه، ووقوفه إلى جانب الناس.

خاب هذا الأمل مراراً وتكراراً، مرّة باغتيال رفيق الحريري، وما تلاه من “مراهقة ميليشياوية” كان منها احتلال بيروت يوم 7 أيار 2008، وأخرى بالمشاركة في القتال ضدّ الشعب السوري لنصرة نظام الأسد، وثالثة بتدمير مرفأ بيروت بسبب تخزين مئات الأطنان من مادّة “نترات الأمونيوم” فيه لصالح النظام السوري.

اصطدمت ثورة 17 تشرين في أيّامها الأولى بالأمين العامّ لحزب الله حسن نصر الله، الذي تيقّن من خطورة السماح للأصوات الاعتراضية في بيئته الضيّقة والشارع عامّة من رفع صوتها والمطالبة برحيل المنظومة.

الشباب: فسحة أمل

بغضّ النظر عن التراجع الذي يشوب الثورة، استفادت قوى التغيير من خروج الجيل الشابّ على عباءة الانتماءات التقليدية والحزبية، ليصنع فسحة أمل هدفها التقدّم نحو مرحلة جديدة من المطالبة بمحاربة الفساد والبحث عن تغيير يحمي مستقبلهم في مواجهة الأطروحات “الأحفوريّة” المتخلّفة وعدم ملاءمتها لنظرتهم الشبابية في بناء وطن حديث بكلّ ما للكلمة من معنى.

نجحت قوى الثورة المضادّة، وفي مقدَّمها حزب الله، في تهديد الثوار، لكنّ الموجة المقبلة من صفوف الشباب تبدو حتى الآن قادرة على عدم الامتثال لقواعد اللعبة السياسية التي درج عليها آباؤهم وأمّهاتهم. فالجيل الجديد ممّن يواجهون حتى الآن، ومعظمهم من أعمار تلامذتي في الجامعة الأميركية في بيروت، لا يكترثون لعمامة رجل دين مسلّح، ولا بتاريخ زعيم إقطاعي يدّعي حرصه على بقاء المسيحيين أو المسلمين، في حين أنّ ممارسة رجال السياسة تصبّ حصراً في الطائفية الضيّقة التي تحوّلت إلى لعنة قاتلة للجميع.

في الأيّام الأولى لثورة 17 تشرين اتّجه بعض الأساتذة، وأنا منهم، إلى ساحات الاعتراض منضمّين إلى طلّابهم، وفتحوا الصفوف الدراسية لنقل الأفكار النظرية إلى إطارها العملي. فبدل المحاضرة عن مونتسكيو ونظريّة فصل السلطات، أو جان جاك روسو والعقد الاجتماعي، جعلنا من التحرّكات في الشارع تطبيقاً عمليّاً للأفكار التنويرية الإنسانية التي نفتقر إليها في بلدنا وفي عالمنا العربي. العديد من الطلاب أتوا بأهلهم إلى الصفوف، ومنهم من انضمّ إلينا لاحقاً حتى عندما انتقلنا إلى صفوفنا الافتراضية مع انتشار جائحة كورونا.

أثناء الدروس لاحظت تغييراً جذرياً في مقاربة الطلاب للعمل السياسي، فقلّة منهم يكترثون للأساطير المؤسّسة للكيان اللبناني، أو لفرادة المنظومة الاقتصادية التي أوصلت البلد إلى قعر الهاوية.

تجربة شبّان دروز

وخلال محاضراتي عن تأسيس دولة لبنان الكبير والمدرسة الفينيقة التاريخية، أو المدرسة القومية العربية أو السورية، لم ألحظ أيّ اعتراض على نعتي تلك الهويّات بالقاتلة، وأنّها لا تؤخّر ولا تقدّم من الانتماء إلى لبنان. يعي الشباب والطلاب اليوم أنّ تلك أفكارٌ وحسب استُعملت سلاحاً لإشعال الحروب والأزمات.

ملاحظة أخرى يمكن تتبّعها بين الشبّان الدروز من خلال مشاركتهم في الثورة وقيادتهم لها في مناسبات عدّة. فمنهم من كانوا ينتمون إلى الحزب التقدّمي الاشتراكي ومنظّمته الشبابية، واعترضوا على تردّد زعيمهم في الانخراط في الثورة، فيما ابتعد قسم منهم منذ سنوات عن صفوف الحزب الاشتراكي، ولا سيّما بعد التسويات التي جعلت من العمل السياسي الحزبي مقزّزاً لبعضهم.

اللافت أنّ القسم الأكبر من هؤلاء الثوّار لم ينخدعوا، بل عرفوا أنّ الخصم الحقيقي لهم هو سلاح حزب الله حامي المنظومة. لذلك لم يساوموا على المطالبة بدولة حديثة كما حلم بها المعلّم الشهيد كمال جنبلاط. فشهادة علاء أبو فخر، الحزبيّ والقياديّ في منظمة الشباب التقدّمي، توّجت هذا الموقف، وأكّدت أنّ الثورة الحقيقية تحتاج إلى مواجهة مفتوحة وطويلة الأمد، وهي حركة تاريخية غير ممكنة بين ليلة وضحاها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وشاشات التلفزة فقط.

انخرط الشبّان في الثورة وساهموا في صناعة وتسيير “الماكينات” الانتخابية لقوى التغيير، ونجحوا في تحويل الحركة الاعتراضية إلى آلاف الأصوات في صناديق الاقتراع، وانتزعوا بجدارة مركزاً متقدّماً لمرشّحيهم في أقضية ومحافظات تُعتبر حكراً على الأحزاب التقليدية المتجذّرة تاريخياً. واللافت في هذه المعركة أنّ الصوت الدرزي الاعتراضي لم يواجه الزعامة الجنبلاطية، بل اعتبر أنّ الأولويّة هي التصدّي لمشروع حزب الله المسلّح وحلفائه المتحالفين مع النظام السوري.

يمتدّ هذا المزاج الشبابي إلى سائر المكوّنات الأخرى، لكن بدرجات متفاوتة. ففي حين تهاجم الأحزاب التقليدية بعضها بعضاً بناء على انتمائها إلى محورَيْ 14 و8 آذار، فإنّ معظم الشبّان لم يشاركوا في تلك الحركات السياسية ولا تعنيهم، لا في شقّها السيادي ولا في نصرتها لمشروع الممانعة. فالشبّان المنتمون إلى بيئة 14 آذار ما عادوا يصدّقون المنادين بالسيادة، خاصّة أولئك الذين ساهموا في وصول ميشال عون إلى سدّة الرئاسة وعبروا نحو صفقات البواخر. هذا فيما الشبّان الذين يناصرون المقاومة، ولا سيّما الصادقين منهم، يواجهون صعوبة في تصديق سرديّة حسن نصر الله بعد اتّفاقه مع الكيان الإسرائيلي والتنازل عن ثروة لبنان النفطية، مقابل مكاسب حزبية تصبّ في مصلحة الدور الإيراني والمشروع المذهبي.

موجات مقبلة

راهن اللبنانيون عقوداً على الماضي وعلى قياداتهم التاريخية للحفاظ على مصالحهم ومكتسباتهم الزبائنية الضيّقة. ولكنّ هذا النظام لم يعُد جذّاباً لجيل الشباب الباحث عن العدالة والحوكمة والدولة الناظمة للعلاقات بين أبنائها. جيل لا يملك حسابات في المصارف التي سطت مع المنظومة الحاكمة على مدّخرات اللبنانيين وشاركت في تدمير الاقتصاد ومدينة بيروت.

ثورة 17 تشرين والثورة التي ستأتي عاجلاً أم آجلاً لن تنسى أحداً من هؤلاء المجرمين الذين أحرقوا الخيم واعتدوا على الثوّار وقتلوا لقمان سليم والعشرات، بذريعة المقاومة وحماية الطوائف.

الثورة مقبلة ولو بعد حين. ستأتي عبر الشباب الحالم بوطن يليق به، وطن بعيد عن انتصارات إلهيّة وهميّة وفاسدين يحاضرون بالعفّة. هي ليست بعيدة وتشبه إلى حدّ كبير ثورات أخرى في العالم تقودها مجموعات قرّرت الخروج على الفساد بأشكاله المختلفة، من بغداد وبيروت إلى طهران وغيرها.

 

* أستاذ جامعيّ وناشط سياسيّ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى