دور “السُّنَّة”.. في ثورة تشرين “الفاشلة”
فاروق عيتاني – أساس ميديا
تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث.
في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً يُنشر على حلقات متتابعة، ويعيد قراءة وجوه الانتفاضة ونتائجها. هنا حلقة رابعة عن دور الفريق السنّي في ثورة 17 تشرين “الفاشلة”، برأي الكاتب، وحركته المحصورة بالمطالب الاقتصادية والمعيشية.
من اليوم الأول لثورة 17 تشرين اندفع اللبنانيون للمشاركة فيها ضمن فريقين متباعدين في هدفَيْهما: فريق يتكوّن من مجموعات سياسية عدّة، وهدفه سياسي، وفريق آخر هدفه اقتصادي – معيشي، ويشمل عامّة السُّنَّة.
السُنّة من البيارتة والشماليّين
الفريق ذو الهدف السياسي تكوّن من جمهور الثنائي الشيعي وجمهور ماروني ذي غلبة قواتية، ومعهم الدرزي. وكان هدف كلّ منهم تحسين سيطرته السياسية ودوام سيطرة المسيطر فيهم. وكانت لهم قياداتهم التي تشرف مركزياً على تحرّكاتهم وأماكنها وتوفّر تغطيتها الأمنيّة والقضائية، وتصوغ مطالبهم. الفريق الثاني، السنّي، كان بلا قيادة سياسية، وحركته محصورة بمطالب اقتصادية ورفع التهميش عنه. فالحريرية السياسية كانت قد انتهت بانبطاحها وخروجها من دوائر القرار السياسي، وقيادات الشمال السنّيّة مشغولة بمنافعها المادّية ويقتصر اهتمامها بجمعيّات تقدّم مساعدات اجتماعية رمضانية أو في مناسبات انتخابية.
الفئة البيروتية من هذا الفريق، وهي أهليّة وعائلية، وكان وسط العاصمة مركز حضورها الأساسي، ما لبث أن حصل تباين بينها وبين السُنّة القادمين من الشمال للمشاركة في احتجاجات بيروت. مجموعات الشمال السنّيّة حملها فقرها المدقع ونقمتها حتى على طرابلس وبلديّتها وعمرانها على اتّباع سياسة “الأرض المحروقة”، فما إن تصل إلى العاصمة بأعداد لا تتجاوز بضع مئات حتى تباشر الحرق والتحطيم والصدام، من ساحة البرج وباب إدريس وصولاً إلى الحمرا.
شِلَل الاعتصامات الآتية إلى بيروت من الشمال والبقاع كان أفرادها يبيتون في هذه الخيمة أو تلك، ويأكلون ممّا يُوزّع على المعتصمين، ويتعرّفون على بيروت ويستفسرون عن أحيائها. لم تكن أعمارهم تتعدّى العشرين، ومنهم من لم يرَ بيروت في حياته إلا في هذه الرحلة، ويسألون المعتصمين من حَمَلة الهواتف إمكانية الاتصال بأهلهم لطمأنتهم.
كانت المجموعات الطرابلسية غالباً ما تعود في اليوم التالي إلى طرابلس، بعد إمعانها في القيام بأعمال شغب ليلية، بينما كان معظم البيارتة يكتفون بالوقوف في الصفوف الخلفية متجنّبين ومتردّدين ورافضين اقتحام المجلس النيابي أو المشاركة في العنف. وكان مشهد معلّمة رياضة طرابلسية، وهي تتسلّق السور الحديدي مقابل التياترو الكبير، متبادلةً الرفس والضرب مع عناصر المجلس والشرطة، مشهداً لا يغيب عن ذاكرة مواجهات تشرين. وكانت ظاهرة الفوضى والشغب السبب الأول لتفكّك الحشد السلميّ البيروتي الذي تجنّب غارات “شيعة شيعة” لحرق قبضة الثورة ورمزها وخيمها في ساحة البرج.
الافتراق الثاني بين السُنّة وباقي المشاركين من مختلف الخلفيّات، هو اكتشافهم أنّ شعار “كلّن يعني كلّن” محصور بمواجهة سعد الحريري ولا يشمل بيضة القبّان في الثنائي الشيعي، أي حزب الله. وربّما لم تتشارك فئات جمهور تشرين المختلفة إلا في الـ”هيلا هيلا هو” ضدّ جبران باسيل و”أمّه”.
الافتراق الثالث للحشد السنّيّ عن الحراك، وانقسام من تبقّى منه، حصلا حين قرّر شطر من السُنّة المحتجّين منح حسان دياب فرصة، بينما رأى الشطر الأساسي أنّ دياب أعجز من تحقيق أيّ مطلب معيشي.
كورونا والمرفأ ولقمان سليم
أنهت جائحة كورونا الاحتجاجات ابتداءً من مطلع سنة 2020. فظهر أبطال جدد على الساحة: أعضاء الجسم الطبي. كادت الأمور أن تستمرّ هادئة لولا فاجعة وفضيحة انفجار مرفأ بيروت. أدّى ذلك الانفجار عمليّاً إلى خروج بيروت الشرقية من المشاركة في الاحتجاجات. واستدعت الكارثة تدخّلاً أوروبياً تمثّل بوصول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت، وانتشار جمعيّات الـ “إن جي أوز” التي كانت المناطق المسيحية المنكوبة محور اهتمامها. وجرى التداول والإقرار شعبيّاً بمسؤولية حزب الله عن الكارثة التي تلتها تصفية فورية للمناضل لقمان سليم.
أظهرت تصفية لقمان سليم خطورة نتائج انفجار المرفأ وتخزين الأمونيوم على حزب الله وبيئته الشيعية. وقد جاءت التصفية بعد مقتل قاسم سليماني وتعيين الجنرال إسماعيل قاآني قائداً جديداً لفيلق القدس خلفاً لسليماني، وكأنّ تنفيذ تصفية سليم أتى وفق حسابات إيرانية من خارج الحدود اللبنانية.
الانهيار ونوّاب التغيير
خلال السنة التي أعقبت ثورة 17 تشرين عمدت الدولة اللبنانية وأركانها إلى رشوة اللبنانيين بوعود مساعدات المئة دولار الشهرية. لكنّ الضربة القاسمة للقطاع المصرفي ولسعر صرف الليرة اللبنانية أتت بعد القرار الذي أصدره حسان دياب برفض دفع قيمة سندات اليوروبوندز، علماً أنّ احتياطي البنك المركزي كان 34 مليار دولار حينها.
فتح قرار رفض الدفع أو التخلّف عن دفع خدمة سندات اليوروبوندز، باب انهيار سعر الصرف على مصراعيه. فمن سقف 10 آلاف ليرة للدولار، وصل الدولار اليوم إلى 40 ألف ليرة. كان وصول حسان دياب من ضمن اتفاق مسبق معه على اتخاذ هذا القرار المتهوّر واللامسؤول وغير المدرك معنى هذا التصرّف “الأرعن”.
في مطلع شباط 2022 دخل العالم كلّه في أولويّة الغزو الروسيّ لأوكرانيا. أدّت هذه الأولويّة إلى توجّه الاهتمام الأميركي نحو توفير الطاقة لأوروبا. لذا حصلت اتفاقية استخراج الغاز بين إسرائيل وإيران، ممثّلة بحزب الله.
سبق الاتفاقية تمرير الانتخابات اللبنانية في موعدها. حافظ الثنائي الشيعي على تماسكه، وسمحت الانتخابات بتسلّل مجموعة النواب التغييريّين المتواصلة مع الاتحاد الأوروبي والتي لها مفاهيم واهتمامات تبتعد عن أولويّة نزع سلاح حزب الله وسيادة الدولة وحلّ المشكلة الاقتصادية، إضافة إلى طرح مسائل تلقى رفضاً من أكثرية الفئات اللبنانية.
قد تمرّ السنوات الأربع المقبلة ولبنان بلا رئيس جمهورية، في انتظار تبلور نتائج الحرب الروسية – الأوكرانية.
من الطريف ذكر أنّ يوم 17 تشرين الأول من كلّ سنة هو اليوم الدولي للقضاء على الفقر. فهل كان هناك تلازم خفيّ بين هذا الموعد وبين موعد ثورة 17 تشرين، تلازم يوحي توقيته بالغرابة وحقّ التساؤل الخجول؟
ومن يتوهّم أنّ ثورة جديدة قد تقوم في لبنان، فعليه أن يسأل نفسه: هل من المعقول أن يقوم ربيع عربي جديد؟