موضوعات وتقارير

مقال تاريخي لكيسنجر: حذّر من الحرب.. وشرح كيف تنتهي

 

محمد السماك -أساس ميديا

تصف روسيا ضمّ مناطق من شرق أوكرانيا بأنّه “استعادة”، وتصفه أوكرانيا (ومعها حلف شمال الأطلسي) بأنّه “ضمّ”، و”الاستعادة”… غير “الضمّ”.

تعني الأولى لدى روسيا أنّ هويّة المناطق المعنيّة روسيّة، وهذا صحيح تاريخياً. ويعني الثاني أنّ المناطق عينها أصبحت، بقيام الدولة الأوكرانية وباعتراف روسيا بها، مناطق أوكرانية تُسلَخ عنها الآن بالقوّة، وهذا صحيح واقعيّاً.

 

خطأ يواجهه آخر

ردّاً على الضمّ أو الاسترجاع، قرّرت أوكرانيا رسميّاً (وفي حركة استعراضية قام بها الرئيس فولوديمير زيلينسكي) الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.

سواء كان تقرير مصير شرق أوكرانيا ضمّاً إلى روسيا أو استرجاعاً، فإنّه خطأ سياسي لأنّه يذهب إلى ضرب الكيان السياسي للدولة. يقابله من جانب أوكرانيا خطأ مثله من خلال طلب الانضمام إلى الحلف الأطلسي لأنّه يذهب إلى دقّ آخر مسمار في نعش التفاهم الروسي – الأوكراني. والخطأ لا يُصحّح بخطأ.

خلفيّة هذه القضية التي يتوقّف عليها جزء كبير من “السلام العالمي” و”النظام الدولي الجديد”، تحدّث عنها الدكتور هنري كيسنجر (يبلغ الآن حوالي المئة من العمر) في مقال نشرته صحيفة “واشنطن بوست”. المقال سابق للتطوّرات الأخيرة. وقد تغيّر رأيه مع تغيّر الوقائع الميدانية سياسياً وعسكرياً. إلا أنّه” بما هو مرجع في العلوم السياسية وفي العلاقات الدولية (وليس بالضرورة بما هو وزير سابق للخارجية الأميركية)” تعاملَ مع القضيّة من منطلقات متحرّكة.

من هنا أهميّة المقال الذي حرصتُ على ترجمته حرفيّاً كما ورد في الصحيفة:

معضلة إنهاء الحرب

“يدور النقاش بشأن أوكرانيا حول المجابهة. ولكن هل نعرف إلى أين نحن ذاهبون؟ خلال حياتي رأيتُ أربع حروب كلّها بدأت بحماسة شديدة وبدعم شعبي. إلا أنّنا لم نعرف كيف نُنهي أيّاً منها. ومن بين ثلاث من تلك الحروب انسحبنا من جانب واحد. إنّ الامتحان السياسي هو كيف ننهي الحروب وليس كيف نبدأها.

منذ أمد طويل تُطرح قضية أوكرانيا على أساس: هل تنضمّ إلى الشرق أم إلى الغرب؟

لكن إذا كانت أوكرانيا تريد الحياة والانتعاش، فيجب أن لا تكون إلى جانب أيّ منهما في مواجهة الجانب الآخر. يجب أن تلعب دور الجسر بينهما. (لكن بعد التطوّرات الأخيرة انقطع هذا الجسر، واعترف بذلك حتى كيسنجر نفسه).

على روسيا أن تقتنع أنّ محاولة إجبار أوكرانيا على أن تكون دولة تدور في فلكها، مع ما يعني ذلك من تغيير الحدود الروسيّة مرّة أخرى، سوف تؤدّي إلى الحكم على موسكو بأنّها تعيد تاريخها في إعادة صناعة دوائر الضغط والضغط المضادّ مع أوروبا ومع الولايات المتحدة. وهذا ما فعله الرئيس فلاديمير بوتين بضمّ أربع مقاطعات من أوكرانيا إلى روسيا.

 

دين ولغة وتاريخ

على الغرب أن يدرك أنّ أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا لا يمكن أن تكون دولة أجنبية. التاريخ الروسيّ بدأ بما يُعرف بالتاريخ الروسي – الأوكراني. والدين الروسي انطلق وانتشر من هناك. كانت أوكرانيا جزءاً من روسيا على مدى قرون.

كان تاريخهما متداخلاً حتى قبل ذلك. بعض أهمّ معارك الحرّية الروسيّة بدأت في عام 1709 بمعركة بولفاتا التي جرت فوق الأرض الأوكرانية. وأسطول البحر الأسود، الذي يعكس القوّة في البحر المتوسط، يتّخذ من سيفاستوبول في شبه جزيرة القرم قاعدة له. حتى إنّ الشخصيّات الروسيّة الشهيرة التي انشقّت، مثل ألكسندر سوكينستين وجوزف برووسكي، تصرّ على أنّ أوكرانيا كانت جزءاً لا يتجزّأ من التاريخ الروسي، وحتّى من روسيا بالذات.

على الاتحاد الأوروبي أن يعترف بأنّ إخضاع عامل استراتيجي لحسابات سياسية محليّة من خلال التفاوض حول علاقات أوكرانيا بأوروبا ساهم في تحويل المفاوضات إلى أزمة.

 

السياسة فنّ وضع سلّم أولويّات

الأوكرانيون يشكّلون عنصر الحسم. هم يعيشون في دولة لها تاريخ معقّد وتتألّف من تكوين متعدّد. كان القسم الغربي جزءاً من الاتّحاد السوفييتي في عام 1939، عندما تقاسم هتلر وستالين المنطقة. و60 في المئة من سكّان القرم هم من الروس. ولم تصبح القرم جزءاً من أوكرانيا إلا في عام 1954، وذلك عندما بادر نيكيتا خروتشوف – وهو من مواليد أوكرانيا – إلى تقديمها منحة خلال الاحتفال بمرور 300 عام على التفاهم الروسي مع الكوزاك.

الغرب كاثوليكي في معظمه، والشرق أرثوذكسي في معظمه أيضاً (لكن بعد الضمّ الذي قام به بوتين أصبح الشرق روسيّاً حتى إشعار آخر).

يتحدّث الغرب باللغة الأوكرانية، واللغة السائدة في الشرق هي الروسيّة. إنّ أيّ محاولة يقوم بها أحد جناحَيْ أوكرانيا للهيمنة على الآخر، كما هو الأمر حالياً، ستؤدّي حتماً إلى حرب أهليّة أو إلى حرب انفصالية (وقد وقع الانفصال بالفعل).

سوف يعطّل التعامل مع أوكرانيا، على أساس أنّها جزء من الصراع بين الشرق والغرب، أيّ احتمال للتعاون في إطار نظام دولي بين روسيا والغرب، وخاصة بين روسيا وأوروبا.

منذ 23 عاماً أصبحت أوكرانيا مستقلّة. لقد كانت على مدى الـ41 قرناً الماضية تحت حكم أجنبي. ولذلك ليس غريباً أنّ قادتها لم يتعلّموا فنّ المقايضة. وأكثر من ذلك لم يتعلّموا من الأبعاد (التجارب) التاريخية.

شيطنة بوتين ليست سياسة

سياسة أوكرانيا ما بعد الاستقلال تُظهر بوضوح أنّ جذور المشكلة تكمن في سعي السياسيين الأوكرانيين إلى فرض إرادتهم لاستعادة أجزاء من الدولة من هذه الجهة أو تلك. لقد كان ذلك في أساس الصراع بين جناحَيْ الصراع، جوليا تيموشنكو وفكتوريا نوكوفيش (الصراع الذي سبق الانفجار الحالي في أوكرانيا). إنّهما يمثّلان جناحَيْ أوكرانيا ولم يكونا على استعداد لتقاسم السلطة. إنّ السياسة تجاه أوكرانيا كان يجب أن تسعى إلى حمل الطرفين على التعاون والتفاهم، وليس على مساعدة أحدهما للسيطرة على الآخر.

لم تعمل روسيا ولا الغرب، ولا حتى الأفرقاء الأوكرانيون، على أساس هذا المبدأ. فقد ساهم كلّ طرف في دفع الوضع نحو الأسوأ. لا تستطيع روسيا أن تفرض حلّاً عسكرياً من دون أن تعزل نفسها فيما تبدو حدودها غير مأمونة ومعرّضة للخطر.

أمّا بالنسبة إلى الغرب فليست شيطنة فلاديمير بوتين سياسة. إنّها دليل على عدم وجود سياسة.

على بوتين أن يدرك، مهما كانت معاناته، أنّ سياسة تقوم على القوّة العسكرية سوف تؤدّي إلى حرب باردة جديدة، ويخشى العالم الآن من حرب نووية. ومن جهة أخرى تحتاج الولايات المتحدة إلى عدم تجنّب معاملة روسيا على أنّها دولة منحرفة وضالّة، وأنّها تحتاج إلى أن تتعلّم قواعد السلوك التي تريدها واشنطن.

بوتين استراتيجي جادّ يقف على تخوم التاريخ الروسي. وليس من أولويّات اهتماماته فهم القيم والسيكولوجيا الأميركية. كذلك فإنّ فهم التاريخ والسيكولوجيا الروسيَّين لم يجد طريقه بوضوح عند السياسيّين الأميركيين.

سياسة الحكماء

على القادة من جميع الأطراف أن يعيدوا النظر في النتائج. وليس التنافس للدفاع عنها. وها هي فكرتي من أجل التوصّل إلى نتيجة تتوافق مع القيم ومع المصالح الأمنيّة للأطراف كلّها: (بعدما ضمّت روسيا المناطق الشرقية من أوكرانيا وأعلنتها جمهوريّات اشتراكية تدور في فلكها، تهاوت فكرة كيسنجر.. وسقطت بحكم الواقع).

– يجب أن يكون لأوكرانيا حق الاختيار الحرّ لعلاقاتها الاقتصادية والسياسية، بما في ذلك مع أوروبا.

– يجب أن لا تنضمّ أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي. وهو موقف التزمت به قبل سبع سنوات عندما طُرح للمرّة الأولى.

– لأوكرانيا حرّيّة تشكيل أيّ حكومة تعبّر عن إرادة شعبها. إنّ قادة حكماء أوكرانيين سيعمدون إلى اتّباع سياسة مصالحة مع مختلف الأطراف في الدولة. أمّا دوليّاً فعليهم اتّباع نهج مماثل للنهج الذي تتّبعه فنلندة.

فنلندة لا تدع مكاناً للشكّ بشأن تمسّكها القويّ باستقلالها وبتعاونها مع الغرب في كلّ الحقول، لكنّها تتجنّب العداء الرسمي (المؤسّساتي) تجاه روسيا. (لكنّ فنلندة انضمّت رسميّاً إلى الحلف الأطلسي على خلفيّة الصراع المتفجّر في أوكرانيا).

ليس من المقبول في ضوء قواعد النظام العالمي القائم أن تضمّ روسيا شبه جزيرة القرم إليها. لكن يجب أن يكون ممكناً وضع علاقات القرم مع أوكرانيا على قواعد أقلّ حدّة واضطراباً. بذلك تعترف روسيا بسيادة أوكرانيا على القرم مقابل موافقة أوكرانيا على تعزيز الحكم الذاتي فيها من خلال استفتاء يجري تحت رقابة دولية. ومن شأن هذه العملية أن تتضمّن إزالة أيّ غموض حول أوضاع الأسطول الروسي في البحر الأسود الذي يتّخذ من سيفاستوبول قاعدة له.

هذه مبادئ وليست وصفة علاجيّة. ومن يعرف المنطقة يعرف أن لا أحد يستطيع أن يدّعي أنّه يتمتّع بولاء الجميع. الامتحان ليس في أن يكتفي أحد أكثر من الآخر، بل في اقتناع الطرفين بضرورة التوازن في “عدم الرضى”.

إذا لم يتمّ التوصّل إلى حلّ على أساس هذه العناصر، فإنّ الانجرار نحو الصدام سوف يتسارع بسرعة”.

المترجم: وهذا ما حدث.. ويحدث.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى