قنبلة نوويّة من دون هيبة!
محمد قواص* – أساس ميديا
حين استخدمت الولايات المتحدة السلاح النووي ضدّ اليابان في 6 و9 آب 1945 قدّمت واشنطن الأمر كحلّ وحيد لا بدّ منه لوقف الحرب. لم تكن كارثتا ناكازاغي وهيروشيما لتُقحما العالم في حرب نووية. ذلك أنّ سلاح الدمار الشامل النووي كان حكراً على الأميركيين وحدهم.
انكشاف الردع والغموض
تغيّر العالم مذّاك وبات السلاح النووي مملوكاً في السرّ والعلن من دول عدّة، ولا سيّما روسيا (السوفييتيّة) منذ 1949. ومع ذلك بقيت فلسفة هذا المستوى التسليحيّ العسكري تتبنّى الردع والغموض على النحو الذي نظّم صراع الأمم وجعله تحت سقف محدّد ووفق قواعد وشروط قانونيّة تنصّ عليها المعاهدات الدولية، وأخرى موضوعية تفرضها أصول العلاقات الدولية وتقاليدها.
أن يأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 27 شباط، أي بعد أيام قليلة من بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 منه، بوضع “أسلحة الردع الاستراتيجي”، بما فيها النووية، في حالة تأهّب، فذلك تحوُّل جرّد الخيار النووي من سمات الغموض الاستراتيجي ومن بعده الرادع. تقصّد الزعيم الروسي أن يبلِّغ العالم من خلال أوامر متلفزة لوزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامّة فاليري غيراسيموف أنّ الذخيرة النووية ستدخل المعركة ولو بعد حين.
وإذا ما أحاطت بالسلاح النووي منذ عقود هالة التميّز، ولا سيّما لأولئك الذين يمتلكون مقاعد دائمة في مجلس الأمن الدولي ويتمتّعون بحقّ النقض دون غيرهم، فإنّ محدودية عدد الدول التي ساقت لها الظروف سلاحاً نوويّاً جعلت من النادي النووي قلعة مقفلة لطالما امتهن أعضاؤها الصمت والرفعة عن التلويح بالقوة النووية في أبجديّات التخاطب في العلاقات الدولية.
والحال أنّ تلويح بوتين بترسانته النووية منذ بداية حربه في أوكرانيا ثمّ تأكيده الأمر تهديداً وتحذيراً في خطاب التعبئة الجزئية في 21 أيلول، أنزل “التاج النووي” من عليائه وأزال عنه أيّ غموض وأسقط منه نعمة الردع وجعل تداوله سوقيّاً كارثيّاً مدمّراً، في حال استخدامه، ومقزّزاً مخزياً، في حال التخاطب فقط باحتمالاته.
نكسة خاركيف والعزل
في كلّ مرّة يطوّر فيها الزعيم الروسي سلوكه وخطبه وقراراته منذ عشيّة الحرب حتى الساعات التي تلت “نكسة” خاركيف 6-9 أيلول، كان يخسر بيادقه، التي كانت تربك الخصوم الدوليين حقّاً ويُعتبر أنّ وراءها عوامل قوّة مجهولة. سقطت أوراق بوتين الواحدة تلو الأخرى، لدرجة أنّ ما صدر عن الصين، وهي “الشريك بلا حدود”، وعن الهند، وهي الصديق المخلص، يعبّر بلهجات خافتة لكن نافرة موجعة لا تخطئها أذن مراقب عن تبرّم يتصاعد من ذلك العبث القادم من موسكو.
أدرك الرئيس الروسي في قمّة سمرقند الكازاخية لدول منظمة شنغهاي في 16 و17 أيلول أنّه ينزلق نحو الوحدة والعزل. بات أكثر يقيناً أنّه لا يستطيع الاعتماد إلا على نفسه وأن لا خيار له إلا المزيد من المقامرة لعلّه يستعيد بعضاً من خسائر مقامرته منذ اتّخاذه قرار الحرب في أوكرانيا.
إنّ قرار التعبئة الجزئيّة، ثمّ تلفيق استفتاء في الدونباس ومقاطعتَيْ خيرسون وزابوروجيا، تمهيداً لإعلانها أراضي تابعة لروسيا، يندرجان ضمن ديناميّات الهروب إلى الأمام التي تستهدف فرض أمر واقع على الحلفاء والأصدقاء قبل الخصوم. أمّا التهديد الفظّ باستخدام السلاح النووي فيهدف إلى القبول بهذا الأمر الواقع حتى لو بقي ركيكاً لا تعترف به دول العالم، ومن بينها الصين والهند ودول الجنوب.
يودّ الرئيس الروسي أن يستمرّ بالإمساك بزمام المبادرة وإجبار العالم على اللحاق به. يروم أيضاً أن يستمرّ في استباق الفعل واستدراج ردود الفعل. يخوض حرباً لم يكن يتوقّع أن تكون لها تلك المآلات الغامضة. أراد أن يكون صاعقاً في مقارباته، مباغتاً في مناوراته، لكنّه اكتشف كم كان العالم جاهزاً لصعقه بالمفاجآت. فلا كييف سقطت في الأيام الأولى، ولا الغرب غضّ الطرف عن حملته الأوكرانية الجديدة كما فعل نسبيّاً مع تلك السابقة التي استهدفت القرم عام 2014، ولا جيشه أبلى البلاء الذي كان متأكّداً (بعد جورجيا والشيشان وسوريا) أنّه سيكون كاسحاً في “عملية عسكرية” روتينية.
الخواء الروسي
يكشف التهديد بالسلاح النووي خواء الخزائن الروسية من مفاجآت أخرى (لن ندخل في احتمالات مسؤولية روسيا عن تفجيرات “نورد ستريم 1″).
يُخرج بوتين ورقته الأخيرة من دون أن يقابله الخصوم بجزع وخوف، ومن دون أن يحظى هذه المرّة بـ”التفهّم” الذي حظي به لدى دول كثيرة في العالم، ولا سيّما الصين. تشعر بكين أنّ في وضع اليد على السلاح النووي ولو تلميحاً وتهويلاً ما يستفزّها وينال من “نظامها” العالمي الذي تتبوّأ فيه قمماً متقدّمة. لا ترتاح بكين إلى حالة العبث بالمنظومة العالمية بما لا يتّسق مع نظرتها وخططها ولا يأخذ بالاعتبار وزنها ودورها ووظيفتها داخل المشهد الدولي.
لا يُخفي بوتين أنّ هدف حملته الأوكرانية هو إنهاء الأحادية القطبية في العالم والذهاب نحو منظومة من قطبيّات متعدّدة. لا يروق للزعيم الصينيّ شي جين بينغ ذلك النزوع الروسي نحو طموحات لا يمكن إلا دولة مثل الصين أن تزعمها وقد تملك إمكاناتها. وقد تشعر بكين أنّها فقدت وهج ردعها النووي وأوراقها التايوانية بعدما جعل بوتين من الخيار النووي مشاعاً بخُسَ ثمنه وانهارَ عائده.