الرئيس مارونيّ والناخب شيعيّ!
إيلي القصيفي – أساس ميديا
صحيحٌ أنّ دعوة الرئيس نبيه برّي المفاجئة إلى عقد جلسة لانتخاب رئيس للجمهورية يوم الخميس الماضي جاءت بعد يومٍ واحدٍ على عظة البطريرك بشارة الراعي التي تساءل فيها: “بأيّ راحة ضمير ونحن في نهاية الشهر الأوّل من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية والمجلس النيابي لم يُدعَ بعد إلى أيّ جلسة لانتخاب رئيس جديد”، ولذلك فسّرت هذه الدعوة على أنّها، في جانب منها، ردّ غير مباشر على الراعي من جانب برّي الذي سارع إلى “إراحة ضميره”.
أسباب بري لدعوة انتخاب رئيس
لكن ليس هذا السبب الوحيد والأوّل الذي دفع برّي إلى عقد الجلسة في هذا التوقيت بالذات. فهل كان انعقاد الجلسة ممكناً لو لم يكن توقيتها موافقاً لمصلحة حزب الله؟ طبعاً لا، والدليل أنّ مآل الجلسة جاء موافقاً تماماً لمصلحة الحزب. وهذا أمرٌ شكّل توقيت الجلسة عنصراً حاسماً فيه بالنظر إلى أنّ انعقادها جاء في لحظة ضمان الحزب وحدة حلفائه الرئيسيين على التصويت بورقة بيضاء في مقابل تأكّده من تشتّت خصومه الرئيسيين وعجزهم عن إظهار وحدة بينهم توازي أو تفوق الوحدة بين الحزب وحلفائه.
لذلك فإنّ “استعجال” برّي عقد الجلسة كانت إحدى غاياته إرباك المعارضة، والأهمّ استباق أيّ إمكانية لتوسّع كتلتها “الصلبة” التي صوّتت لمصلحة النائب ميشال معوّض. فحتّى لو كانت إمكانات توسيع هذه الكتلة إلى حدود تُحدث فارقاً نوعيّاً في توازنات الجلسة غير متوفّرة بعد ما دامت الجهود الداخلية والخارجية لتوسيعها لم تبلغ حدّها الأقصى، فإنّ الحزب أراد أن تُظهر الجلسة أدنى حجم ممكن لهذه الكتلة المعارضة مقابل أكبر حجم ممكن لكتلته الصلبة.
هنا ليست مقاربة الحزب للجلسة داخلية بحتة. فخريطة التحالفات والتصويت التي أفرزتها تلك الجلسة لا تُقاس على مقياس داخلي وحسب، بل إنّ مقياسها الرئيسي هو إقليمي ودولي. ولذلك فإنّ الجلسة بما انتهت إليه حقّقت هدفين رئيسين للحزب، أوّلهما تأكيدها أنّ الأخير هو اللاعب الرئيسي في اللعبة الداخلية، ولا سيّما في الاستحقاق الأهمّ في المرحلة المقبلة، أي رئاسة الجمهورية، وثانيهما إثباتها أنّ حضور إيران في لبنان لا يوازيه حضور أيّ دولة إقليمية أو دولية أخرى.
متنفَّس استراتيجيّ
يدفع كلّ ذلك إلى القول إنّ توقيت الجلسة لم يكن داخليّاً وحسب، أو بصيغة أخرى يوافق انعقادها في هذا التوقيت بالذات مع الأجندة الإيرانية من دون أن يكون ثمّة رابط سببيّ بالضرورة بين انعقادها وبين المصلحة الإيرانية الآنيّة. لكنّ التأكيد على تفوّق النفوذ الإيراني في لبنان الآن هو بمنزلة متنفَّس استراتيجي لطهران في لحظة ازدياد الضغوط الداخليّة عليها بفعل الاحتجاجات المتصاعدة التي تأخذ أشكالاً أمنيّة “نوعيّة”، وكذلك الضغوط الخارجية بالنظر إلى التعثّر المتواصل في مفاوضات فيينا واستمرار الفوضى السياسية والأمنيّة في العراق ومواصلة إسرائيل أذيّتها في سوريا، إضافة إلى جمود الحوار بينها وبين المملكة العربية السعودية.
قراءة في الوقائع
ولعلّ قراءة وقائع ودلالات جلسة الخميس يفترض أن تأخذ هذه النقطة الأخيرة، أي مسألة الحوار بين طهران والرياض، في الاعتبار، وذلك بالقياس إلى تركيز الحزب السياسي والإعلامي على حركة الدبلوماسية السعودية في بيروت ربطاً بالاستحقاق الرئاسي. وهو تركيزٌ يهدف إلى الضغط على هذه الحركة وإظهار حدودها مقابل حدود حركة الحزب، وهذا أمرٌ يفيض بدلالات إقليمية وحتّى دولية بالنظر إلى التقاطعات أو التوافقات الفرنسية السعودية الأميركية في هذا الاستحقاق.
عليه كانت جلسة الخميس بالنسبة إلى حزب الله بمنزلة ردّ “ميداني” ومباشر على البيان الثلاثي الذي أصدره وزراء خارجية كلّ من السعودية وأميركا وفرنسا في 22 أيلول على هامش انعقاد الجمعية العامّة للأمم المتحدة في نيويورك، والذي دعا إلى تنفيذ القرارات الدولية الخاصة بلبنان والالتزام باتفاق الطائف، وهذا كافٍ للحزب لاعتبار البيان ضدّه أو بالحدّ الأدنى لإدراجه في خانة الضغط الإقليمي والدولي عليه.
بيد أنّ الحسابات الداخلية للحزب ليست أقلّ أهميّة من حساباته الخارجية، إذ ثمّة تقاطع أكيد بين هذه الحسابات وتلك. في هذا السياق يركّز الحزب اهتمامه على ملفّين أساسيّين في المرحلة المقبلة هما ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل والاستحقاق الرئاسي، وما استعجاله تشكيل الحكومة إلّا لتحسين شروط إدارته لهذين الملفّين المهمّين.
مصلحة الحزب من الجلسة النيابية
لذلك كانت جلسة الخميس بالنسبة إلى الحزب محطّة مهمّة في سياق مقاربته للمرحلة المقبلة، أي أنّه بنى استراتيجيّته لتلك الجلسة على قاعدة أنّها فرصة ثمينة لتجميع أوراق قوّة إضافية لخوض الاستحقاقات المقبلة. ففي لحظة الاقتراب من توقيع اتفاق الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل يهمّ الحزب استعراض قوّته السياسية داخلياً بالتوازي مع إعلان انتصاره في ملفّ الترسيم الحدودي، وهذا أمرٌ لا يسمح باستكمال صورة الانتصار وحسب، بل ويرسم خطّاً بيانيّاً لخطاب الحزب وسلوكه في المرحلة المقبلة وصولاً إلى انتخاب رئيس للجمهورية موالٍ له أو له فيه الحصّة الكبرى.
في هذا السياق تبرز وظيفة أخرى لجلسة الخميس بالنسبة إلى الحزب. فإلى جانب كلّ حساباته الداخلية والخارجية لمواجهة خصومه في الداخل والخارج، تنشأ لديه حسابات أيضاً لإدارة فريقه في الاستحقاق الرئاسي، ولا سيّما في ظلّ المنافسة الشرسة بين حليفَيْه المسيحيَّين سليمان فرنجية وجبران باسيل. حتّى الآن نجح الحزب في جمعهما وراء الورقة البيضاء، لكنّ الأهمّ أنّه أظهر فريقه موحّداً في لحظة محلّية وإقليمية ودولية تشكّل فيها وحدة حلفائه نقطة قوّة رئيسية له. بالتالي وضع الحزب هؤلاء الحلفاء في جلسة الخميس أمام أمر واقع جديد، وهو أنّ وحدتهم مقابل تشتّت المعارضة أو المعارضات هي إنجاز لا يمكن التفريط به، ولا سيّما بالنظر إلى الأهميّة الاستراتيجية للمرحلة المقبلة بالنسبة إلى الحزب. لذلك أيّ خلل يصيب هذه الوحدة بسبب التنافس الرئاسي بين حليفيه فرنجية وباسيل يشكّل خسارة استراتيجية للحزب لا يمكنه القبول بها.
سقف الحزب
بذلك رسم الحزب سقفاً لحلفائه، وهو أنّ وحدتهم في الاستحقاق الرئاسي تتقدّم على طموح هذا الحليف أو ذاك إلى رئاسة الجمهورية. تحت هذا السقف سيدير الحزب المعركة الرئاسية وسيُلزم حليفيه هذين به بغضّ النظر عن حظوظ أيّ منهما، وهي حظوظ تخضع بالدرجة الأولى لطبيعة التسوية الإقليمية والدولية بشأن رئاسة الجمهورية، وخصوصاً أنّ جلسة الخميس أظهرت بوضوح تعقيدات الخريطة البرلمانية التي تجعل “لبننة” الانتخابات الرئاسية مستحيلة بالنظر إلى أنّ أيّاً من الفريقين لا يستطيع تأمين الشرطين الدستوريَّين لانتخاب الرئيس معاً، أي نصاب الثلثين والنصف زائداً واحداً من عدد الأصوات. ولذلك لن تذلّل هذه التعقيدات سوى تسوية من هذا النوع ستحدّد حكماً شخصية الرئيس مع الأخذ في الاعتبار أنّ خريطة التوازنات داخل المجلس التي أظهرتها جلسة الخميس ستؤثّر حكماً في نوعيّة هذه التسوية، واستطراداً في نوعيّة الرئيس: هل يكون حليفاً مباشراً للحزب أم لا؟
في المحصّلة لم يتابع أهل زغرتا لوحدهم الجلسة الأولى لانتخاب الرئيس بالنظر إلى وجود مرشّحَيْن من بلدتهم، واحد معلن هو ميشال معوّض وآخر أضمرته الأوراق البيضاء هو سليمان فرنجية مع ما يضمره التنافس الرئاسي بينهما من خلفيّات تاريخية للصراع السياسي – العائلي في هذه البلدة المارونية. تابع سفراء الدول القريبة والبعيدة الجلسة وأرسلوا تقاريرهم تباعاً إلى وزراء خارجيّتهم ليطّلعوا أكثر على حقيقة المشهد الرئاسي، وربّما كتب أحدهم ما معناه: صحيحٌ أنّ الرئيس مارونيّ لكنّ الناخب شيعيّ، ليس لأنّ رئيس البرلمان شيعيٌّ يحمل بيده مفاتيح المجلس ويحتكر تفسير الدستور نصاباً واقتراعاً بين الدورتين وحسب، بل أيضاً لأنّ الناخب الأوّل لرئيس الجمهورية شيعيّ هو الآخر، أي حزب الله!