الطائف: فرنسا تعدل مسارها نتيجة قرار سعودي – أميركي
جوزفين ديب -أساس ميديا
حسم البيان الثلاثي الأميركي ـ الفرنسي ـ السعودي الالتزام الدولي بسقف اتفاق الطائف، كوثيقة دستورية تحكم شكل النظام في لبنان. ليس الأمر تفصيلاً. لم يكن هذا ليحصل لولا تدخّل المملكة العربية السعودية التي أعادت تثبيت البوصلة السياسية المُتعلّقة بهويّة لبنان وعلاقاته العربية والدولية.
حسم البيان الثلاثي الصادر من نيويورك كلّ الجدل حول النظام السياسي في لبنان. وكان أبرز تجلّياته المسار الذي قادته المملكة العربية السعودية ودار الفتوى عبر التأكيد على التمسّك باتفاق الطائف ورفض البحث في النظام، بل الانفتاح على تطبيق صحيح للطائف. وكانت أبلغ الدلالات على أهميّة طيّ صفحة البحث في النظام هي زيارة رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل حليف “حزب الله” لدار الفتوى، وتاكيده من على منبرها “التمسك باتفاق الطائف”.
السعوديّة ولبنان
أتت العودة السعودية إلى الملفّ اللبناني بعد حوار سعودي ـ فرنسي في أكثر من ملفّ. وربّما يكون أهمّ ما نجحت فيه المملكة في الملفّ اللبناني هو إقناع فرنسا بتعديل المسار والسياسات المتّبعة في لبنان. وأوّل نتاج هذا الحوار كان تثبيت “اتفاق الطائف” ثمّ إعلان وجوب إنجاز استحقاق رئاسة الجمهورية.
من جهة أخرى، لم يكن الموقف السعودي بعيداً عن الموقف الأميركي. فالولايات المتّحدة التي كانت تراقب الدور الفرنسي من بعيد قالت كلمتها “فصوّبت مسار الانحراف الفرنسي”، حسبما قالت مصادر دبلوماسية لـ “أساس”، ولأنّ “فرنسا مقيّدة بسقف السياسة الأميركية، وإن كانت مصالح الأولى محلّ اهتمام كما هو الحال في ما خصّ إدارة المرفأ والتنقيب عن النفط وحتى في الكلام عن شهيّة لدخول القطاع المصرفي”.
عودة التقاطع الأميركيّ ـ السعوديّ
كانت العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية، في الفترة السابقة منذ وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، تمرّ بمرحلة باردة. وذلك قبل أن تستعيد بعضاً من حرارتها ومسارها الطبيعيّ من خلال زيارة الرئيس الأميركي للرياض التي تمكّنت من فرض شروطها من بوّابة النفط، وأن تستأنف دورها في لبنان بعد زمنٍ من الانكفاء.
وعلى الرغم من تداخل الملفّات الدولية والإقليمية فقد عاد ملفّ لبنان إلى الواجهة من مدخل ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. بالتوازي كان الجهد السعودي منصبّاً على تثبيت الاستقرار الهش في لبنان الذي راح يتصدّع بسبب الأزمات الاقتصادية والنقدية والاجتماعية.
الانحراف الفرنسيّ
إذا كان الموقف السعودي بديهيّاً وحاسماً تجاه التزام لبنان بالطائف، فإنّ الموقف الفرنسي سبق أن انحرف، منذ ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وصولاً إلى الأشهر القليلة الماضية، باتجاه “الاستجابة الخفرة” لمطالب مبعثرة بتعديل الطائف والذهاب باتجاه المثالثة. وهذه مطالب كان مصدرها على الدوام ما اصطُلح على تسميته “حلف الأقلّيّات” الذي يتكوّن في صلبه من محور الممانعة بشقّيه “حزب الله” و”التيّار الوطني الحرّ”.
تقول المصادر الدبلوماسية لـ “أساس” إنّ “أهميّة البيان الثلاثي الصادر من نيويورك تكمن في التأكيد على الثوابت الدولية تجاه لبنان، فمهما علا ضجيج الانحراف الفرنسي في السنوات الماضية، فإنّ الدول تعود في المحطات المفصلية إلى ثوابتها، وعنوانها في لبنان “الطائف””.
شيراك وسان كلو
بعد الحرب اللبنانية وخروج المسيحيين منها مهزومين بقائدين، واحد في المنفى وآخر في السجن، فتح الرئيس جاك شيراك خطوط فرنسا على لبنان عبر الرئيس رفيق الحريري. أبقت فرنسا عبر إرساليّاتها ومؤسّساتها على البعد التاريخي لعلاقتها مع المسيحيين في لبنان، لكنّها وجدت في شخص الحريري زعيماً إسلاميّاً ووطنيّاً قوي الحضور محليّاً ودوليّاً، وهو ما جعله شريكاً لفرنسا. هكذا لم يكن الرئيس الآتي من أحزاب اليمين الفرنسي جاك شيراك حليفاً للحريري الأب فقط، بل صديقاً له أيضاً.
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، تعاظمت قوة حزب الله فاهتزّت تسوية الطائف مع اهتزاز الأمن في البلاد. وتوالت الاغتيالات والتفجيرات إلى أن وجد الرئيس الفرنسي طريقاً إلى البقاء في لبنان يمرّ عبر الانفتاح على الأقوى بعد رفيق الحريري. فعُقد يومذاك مؤتمر سان كلو في فرنسا بحضور القوى اللبنانية على اختلافها، وهو المدخل الذي أرادت به باريس أن تؤسّس لعلاقة مع حزب الله باعتباره القوّة الصاعدة في لبنان.
فتح سان كلو باب النقاش في تعديل النظام بعد اغتيال “رافعة” اتفاق الطائف. يومئذٍ ساهم الفرنسيون في إدخال “مصطلح المثالثة” إلى الحياة السياسية اللبنانية للمرّة الأولى من بوّابة البحث في النظام.
ماكرون في بيروت وخطأ الترجمة
لم تساعد تطوّرات المنطقة على استمرار البحث في مسألة النظام، فكانت الأولويّات في سوريا، وكانت تداعيات الحرب فيها على لبنان والمنطقة هي الطاغية على كلّ ما عداها. ولاحقاً أوصلت التسوية الإيرانية ـ الأميركية ميشال عون، حليف حزب الله، إلى بعبدا بعد أزمة دستورية رئاسية دامت عامين.
هكذا كرّست التسوية الرئاسية دور حزب الله فأحكم قبضته على مفاصل الحكم في لبنان. وفي الرابع من آب عام 2020 انفجر مرفأ بيروت فضجّت عواصم العالم بأحد أكبر التفجيرات الكيميائية في العالم. وجد الرئيس الآتي من أحزاب اليمين أيضاً إيمانويل ماكرون فرصته لدخول لبنان من بوّابة المرفأ. ولأنّ فرنسا كانت تبحث عبر لبنان عن نافذة شرق متوسّطية لمنافسة الدور التركي، خصوصاً بعد بدء أنقرة التنقيب عن النفط في مناطق متنازع عليها في شرق المتوسّط، عقدت طاولة حوار لبنانية في قصر الصنوبر وطرحت تعديل النظام من بوّابة دعم لبنان وإنجاز الإصلاحات الاقتصادية.
وعلى الرغم من تبرير المقترح الفرنسي يومئذٍ “تعديل النظام” بخطأ في الترجمة، غير أنّ ذلك لم يمنع استنفار بعض المرجعيّات رفضاً لأيّ شكل من أشكال التعديل باتجاه المثالثة. عشيّة مؤتمر قصر الصنوبر، توجّه البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إلى بيروت حيث التقى ماكرون وحذّر في حديثه معه من المسّ بوثيقة الوفاق الوطني. أبقت فرنسا على مقترحها مع بعض التجميل اللفظي له. فتحت أوتوستراداً مع حزب الله وأبقت على مشروعها الذي سقط بصدور البيان الثلاثي من نيويورك.