نعم… المقاومة تستطيع!
سيكون ثقيلاً على سمع مسؤولين وجهات لبنانية تسليم العدو بشروط المقاومة في إدارة ملف المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية. وسيزداد حنق هؤلاء عندما تظهر إلى العلن النتائج العملانية التي تؤكّد المؤشرات، حتى اللحظة، أنها ستكون لمصلحة لبنان في تثبيت حقه في المساحة والسيادة وأعمال التنقيب والاستخراج. لكن المشكلة أن فريقاً من اللبنانيين، قيادات وقوى وشخصيات وحتى جمهوراً، سيجد نفسه، شأنه شأن مؤسسات دولة الاحتلال، معنياً بالحديث عن أن ما قد يتحقق ليس سوى «مكرمة» قدّمتها إسرائيل برعاية أميركية.
حتى مساء أمس، كانت المعطيات المتعلقة بالمسار التفاوضي حول الترسيم البحري تقود إلى خلاصة أن الاتفاق بات وشيكاً. وللتدقيق، فإن ما يمكن تحقيقه، لن يكون سوى انتصار وشيك للمقاومة في لبنان، ولو أن البعض لن يربح جميلاً للمقاومة في استرداد الحقوق في المياه كما لم يربح لها جميلاً في استرداد الأرض، وفي الدفاع عن لبنان في وجه عصابات القرون الوسطى. وسنكون، ويا للأسف، أمام جوقة من الندابين الذين يواصلون، عن وعي كامل، سياسة الإنكار إزاء ما تغير في لبنان والمنطقة.
خلال أسابيع عدة تلت إعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن استعداد المقاومة للذهاب إلى حرب واسعة ما لم يقرّ العالم بحقوق لبنان، كان كثيرون، في لبنان والعالم، يدرسون التهديد ومدى جديته. وكما في كل مرة، كان العدو أكثر من تعامل مع الأمر بجدية، وأكثر من حث الجهات الدولية على التدخل، وأبلغ الأميركيين والفرنسيين أن تجربته المريرة مع لبنان تؤكّد أن حزب الله مستعد للذهاب فعلياً نحو مواجهة كبيرة إذا تطلّب الأمر. هذا الكلام هو جوهر ما أنصت إليه الوسطاء، من دون أن يتوقفوا عند البيانات والتصريحات الإعلامية لقادة العدو بالتهديد بتدمير لبنان. كما أن الجماعات الأجنبية العاملة في لبنان، وفي مقدمها قوات الطوارئ الدولية، أبلغت العدو وعواصم بلدانها بأن ما يجري في مناطق انتشارها من إجراءات ميدانية تقوم بها المقاومة، علناً وفي وضح النهار، تشير إلى أن حزب الله في صدد الذهاب إلى حرب واسعة متى تطلب الأمر. علماً أن المعطيات الاستخباراتية التي عمل العدو على جمعها على طول الحدود وفي العمق اللبناني، أعطته ما يكفي من أدلة موثّقة حول استعدادات المقاومة للذهاب ليس فقط نحو تدمير كل منصات استخراج الغاز مقابل سواحل فلسطين، بل إلى خوض حرب واسعة وشاملة.
عملياً – ومع حذر يبقى ضرورياً حتى اللحظة الأخيرة – انطلقت عملية صياغة مسودة اتفاق يشتمل على إقرار إسرائيلي، بضمانة أميركية وفرنسية وأممية، بأن لبنان صاحب الحق الاقتصادي الكامل في كل المنطقة الواقعة شمال الخط 23، وهو صاحب الحق في الخزان الخاص بحقل قانا حتى ولو امتد إلى داخل الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى تعهد عملاني بأن تطلق الشركات العالمية، وخصوصاً «توتال» الفرنسية، أوسع عملية تنقيب لا تقتصر فقط على البلوكات الحدودية، بل تشمل بقية البلوكات اللبنانية، وفق آلية يجري التفاهم على تفاصيلها مع الحكومة اللبنانية. وسيشمل الاتفاق إجراءات تقوم بها جهة محايدة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع الاحتكاك على جانبي الخط الحدودي البحري، وبما يسهل عمليات شركات التنقيب والاستخراج، وفق آلية تنظّم الحركة المدنية والعسكرية في المناطق الحساسة.
وإذا كان حظ حكومة يائير لابيد بائساً كونه سيتعرض لحملة كبيرة داخل الكيان ربطاً باستحقاق الانتخابات النيابية هناك، فإن كل اللاعبين في كيان العدو يعرفون بأن الأمر يتجاوز خلافاتهم السياسية، وأن الجانب الأميركي لعب دوراً وفق قواعد تتعلق بأمن الطاقة العالمي من جهة، وباستراتيجية عدم إشعال منطقة شرق المتوسط بحروب كبيرة. وعليه، ليس من شأننا الاهتمام بما ستؤول إليه الأوضاع في الكيان، ولسنا في موقع من يفضّل هذا الطرف أو ذاك في كيان يعمل كل من فيه على قتلنا وسرقة ثرواتنا كل يوم. ولن يكون في لبنان من يمكنه توفير أي مساعدة لحكومة العدو الحالية تحت ستار السعي إلى إنهاء الأمر من دون تعقيدات، ولتتولّ الولايات المتحدة معالجة الأزمات القانونية والدستورية داخل كيان العدو، مثلما ألزمت الفرنسيين بأن تتولى «توتال» توفير أي «تعويض» مالي يريده العدو عما يزعم أنه حق له في حقل قانا.
ما يعنينا هذه المرة، وأكثر من أي وقت سابق، الحديث بصراحة شديدة عما حصل، والتخلّي عن التواضع الذي يغلّب المصلحة الوطنية. الصراحة تقضي القول إن المقاومة كانت العنصر المركزي في جعل العدو يتوقف عن غطرسته، وكانت العامل المواجه للنزق الأميركي والصلافة الأوروبية، وكانت الكابح لأي تنازلات إضافية يمكن أن يقدم عليها أي طرف لبناني بحجة تسهيل الأمور لتحصيل الأموال. وكانت المقاومة، إضافة إلى كل ذلك، العامل الأساسي الذي أفهم العدو (بوسائل مختلفة) بأنه لن يكون قادراً على التنعم بالثروة النفطية والغازية الموجودة في البحر الفلسطيني المغتصب، ما لم يتنعّم لبنان بثروته، وأن زمن النهب، كما زمن الغزو، ولّى إلى غير رجعة.
وأهمية هذا الأمر ليس في أنه حقيقة يجب الإقرار بها من كل لبناني صاحب عقل ومنطق وحتى مصلحة في وقف الانهيار، بل في أن ما قامت به المقاومة في ملف الحقوق البحرية يمثل عنواناً عملانياً للاستراتيجية الدفاعية التي يتشدّق أعداء المقاومة بها كل صباح ومساء، لكن ضمن سياق التزامهم مشروع العدو الهادف إلى نزع سلاحها. وفوق كل ذلك، فإن ما تقوم به المقاومة الآن يعطل كل أنواع التهديدات التي تعوّد العدو عليها، ويبطل مفعول أي قرارات دولية من شأنها تفخيخ اتفاقات التهدئة، كما هي حال القرار الأخير بتجديد مهام القوات الدولية العاملة في لبنان، والتي يفترض بها أن تكون فهمت الدرس جيداً، وأسقطت من بعض الرؤوس الحامية عندها فكرة التفلّت من وصاية الجيش على تحركاتها، لأنها، حتى ولو كانت طرفاً في الاتفاق المرتقب ولها دورها في البحر، إنما على جميع من يشارك في أعمالها، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، أن يفهم بوضوح: أنتم في بلد تحكم علاقته مع العدو معادلة المقاومة لا معادلة القناصل…
أما للآخرين من صيصان سفارات أميركا وأوروبا والسعودية في لبنان، وصحبهم من جماعة النوستالجيا لبلد لم يعد موجوداً حتى في الأحلام، فيجدر بهم أخذ العبرة، حتى ولو أغاظهم الأمر. ومن الواجب لفت انتباههم إلى أن ما يجري الآن هو دليلنا إلى لبناننا الحقيقي!