“الأربعون ربيعًا”.. إنّها البداية
وبلغ أربعين عامًا، وكل الأعوام من دونه ما كانت لتكون إلّا عِجافًا. أربعون عامًا وقد زيّن ربيعَ عمره بشقائقٍ حمرٍ مخمليّة، عطّرت أجواءه بعبق الكرامة والنّصر الناصع. من مدد روح الله انبثق الفجر الأبيض ومع المحرّم لتكون شهادة الدّم أعظم مفاخر التوثيق، ووسيلة استقطاب المنتظرين الرّاغبين.
سهلةٌ هي كلّ ألفاظنا ننظِمُها في التعابير حِبرًا، لكنّ من عاشها بالتفاصيل يُدرِك فنون الغزل الروحيّ مع المقاومة. من موطئ قدم الاحتيال، كانت طلائع عرائس المضحّين والفدائيّين وكان الموقف السّلاح، ومع بدر الاستشهاديين أشرقت قوافل النّجوم الغيارى في سماء مساءاتنا الموحِشة العابقة بغبار قصف المدافع والطّائرات وآلة التّدمير الجنونيّة الصّهيونيّة.
هي ذاكرتنا لا تنسى صبرا والمخيّمات، وقانا والمنصوري وقاسم وزينب والرّعب المخبّأ في زنازين الخيام، وعُذرًا من الأيتام والأرامل والجرحى والمفقودين، أنّنا بتنا اليوم بفضل صبركم أمّةً عزيزة لا تعرف الهزيمة أو الانكسار.
إنّها نفسها الذّاكرة التي تُسعِف أرواحًا ميتة تبحث عن ضياع، ذاكرة لُبنانِنا الذّي خرّبوا داخله بهذه الأرواح التعيسة، مع محاولة استكمال دماره من خارجه. كلّا، خسئت تلك الأرواح مع من ينفخ فيها وهمًا بِوَهم.
تعود لنا الذاكرة الحياة، رغم أنّها ستُخبرنا عن الكثير من الآلام والتهجير والفقد، عن العباس وراغب والعماد، وقاطرة الشهادة الممتدّة من جبال عامل إلى التّلال، إلى الجرود، من الوادي إلى الضاحية وأبعد من الحدود، لنا في كلّها دماءٌ طاهرة أشبعت ترابها عزّةً وصفاء، لنا بطولات فوارس تجهلهم الأرض وتعرفهم السّماء، لنا عيونٌ لا ترفّ جفونها تحرس ليالينا وتصون المقدّسات، لنا السّلاح والرّدع وشبعا وكلّ الأرض، لنا النفط وحقّ الرّد والمسيّرات، لنا الإسلام تحت رايته السّلام والأمان يُزهِق داعش والباطل المتأمرك، لنا الصبّر ومرارات البعد عن قائدنا المعظّم وكأنّها ضريبة الانتماء إلى جبهة الإنسانيّة الحقّة، لنا النّصر تتلوه آيات قرآننا في مآذن القدس وفي كل شبرٍ مغتَصَبٍ يرفض شعبه الذّل والهوان. هُنيهاتٌ لنا حتّى تُسَلّم الرّاية بيد صاحبها فيعمر الأرض القسط والعدل بعدما طغى ظلّ العتوّ والاستكبار.
من صوت المستضعفين، فالنّور والمنار، صدى الحقّ الّذي يصدح رغم الحصار، ما أُخِذَ بالقوّة رددناه وسنردّه لأهله كي تقرّ العيون ببعض من وفاء العهد، وكي لا تكسرهم شرائك الوعود الزّائفة. فوق دمار تمّوز نُصِبَت لنا خِيَم التهجير والإبعاد ليستفرد بالبلاد طُغمةٌ من عمالة، لكنّهم سرعان ما أدركوا أن ّ الرجولة والبطولة توارثناها مع حليب رِضاعِنا وهيهات هيهات، إن كَتَبَ التّاريخ مجدًا دوننا سيظلّ مُرتهنًا بلا مصداقيّة. أيّامُنا حُبلى بالعزّ ومواقف الفخر ولسنا نتكبّر. صنعنا بالزناد مفاجآت العين بالعين وبتنا اليوم صُنّاع القرار، فإن قُتِلنا فموت العزّ الّذي نتمنّاه، وإنّ النّصر حليفنا كيفما آلَت موازين الميدان، حتّى يعود الحق إلى أهله دون ارتياب.
هُنا ثقافتنا وعراقة الهويّة والانتماء. لسنا كَشَتاتِهم يسقونه بالتسلّط، ليس ماء الحياة، بل سُمّ قاتل سيُهلِكهم بأيدينا الرّافضة للهوان، والّتي تُلبّي حُبًا وشوقًا وشغفًا وانتظارًا، حتّى يلُمّ شملَنا موعدٌ مع الأقصى والمسيح وكلّ الأحرار في كلّ الأقطار.
لا يسعُ الكلام ليختصر عقودًا أربعةً في الزمان، لكنّ تاريخًا سُطّرت ملاحمه بدم الأبطال سيكتبه النصر ببيارق رايةٍ صفراء على جبين صفحة الشمس وفي اللّيل مع التهجّد تحكيه نجوم الأرض لأهل السّماء، إنّها مجرّد بداية، حتّى يَرِثَ الأرضَ عبادُه الصالحون.