إستحقاقات لبنان مُرتبطة بالملفات الخارجيّة… فماذا عن رئاسة الجمهوريّة؟ الصراع في أوكرانيا… حرب بالوكالة وتداعيات على النظام الإقتصادي العالمي الإتفاق على النووي الإيراني له تداعيات إيجابيّة على المنطقة وعلى لبنان
المحلل السياسي
الديار
ليس بجديد القول إن كل الملفات اللبنانية مرتبطة بشكلٍ وثيق بالمعطيات الخارجية، حتى إن ملف النازحين خارج عن سيطرة الدولة اللبنانية التي لا تستطيع أخذ قرار إعادة النازحين إلى بلدهم منفردة! إذًا نرى أن لبنان فقد أسس سيادته الوطنية مع فقدان النظام فيه القدرة على إدارة الشأن العام بمعزل عن المعطيات الخارجية.
السيادة الوطنية (National Sovereignty) هي مفهوم سياسي معقّد يختلف تعريفه بحسب فكر الفلاسفة والمفكرين السياسيين. فالسيادة هي موضوع فلسفي بالدرجة الأولى، بدأ مع سقراط وأعطاه جان بودان (Jean Bodin) إطارا علميا محدّدا ليتطور لاحقًا هذا المفهوم مع تأثير العديد من الفلاسفة والمفكرين مثل هوبس، روسو، هيغل وماركس.
قانونيًا، تُعرّف السيادة الوطنية على أنها «قدرة الدولة على تحديد مصيرها بإرادتها الخاصة، من دون أن تكون مجبرة من قبل قوى خارجية، في حدود مبدأ القانون الأعلى، ووفقًا للهدف الجماعي المطلوب تحقيقه» (Louis Le Fur 1896). هذا التعريف للسيادة الوطنية يؤدّي إلى استنتاجين:
– الأول: حق الشعب في تقرير مصيره.
– الثاني تقرير المصير ضمن أطر القانون الدولي والمعاهدات الدولية.
أيضًا قام المُحكّم الدولي ماكس هوبر في العام 1928 بإعطاء تعريف للسيادة خلال تحكيمه لقضية جزيرة البالاماس: «السيادة في العلاقات بين الدول تعني الاستقلال. والاستقلال في ما يتعلق بجزء من الكرة الأرضية، هو الحق في ممارسة حصرية لوظائف الدولة على هذا الجزء، بمعزل عن أي تدخل لدولة أخرى».
مفهوم السيادة تطوّر ليتناول العديد من الأبعاد مثل البعد المالي أو البعد الاقتصادي أو النقدي أو التنموي أو الاجتماعي… فمثلًا يمكن الحديث عن السيادة المالية للدولة على أراضيها من خلال فرض الضرائب وجبايتها، أو يمكن الحديث عن السيادة الاقتصادية من خلال حق الدولة في استخراج مواردها الطبيعية من أراضيها واستخدامها بما فيه خير الشعب، أو يمكن الحديث عن السيادة التنموية في ما يخص حق الدولة في فرض سياسات اجتماعية على أراضيها بهدف تنموي…
المشكلة أنه إذا أخذنا بلدًا معيّنًا ووضعنا المعايير التي على أساسها يتم تعريف السيادة الوطنية، نرى أن هناك خرقًا لهذه السيادة من عدّة نواح:
إقتصادياً: يُعتبر الاندماج الاقتصادي للدولة في الاقتصاد العالمي انتقاصا لهذه السيادة من ناحية تعلّقها بموارد مستوردة من الخارج. وبالتالي، فإن أي قرار ستأخذه الدولة، يأخذ بعين الاعتبار مصالح الدولة المستورد منها تحت طائلة تهديد أمن الشعب الاقتصادي.
مالياً: العولمة في المجال المالي تجعل الدول عرضة – في بعض الأحيان – لضغوطات لأخذ قرارات تذهب في اتجاه معين قد لا يكون بالضرورة يصب في مصلحة الدولة. على هذا الصعيد، تُعتبر الديون الخارجية للبلد خرقا فاضحا للسيادة الوطنية من ناحية خضوع الدولة للقرارات الخارجية.
نقدياً: تعرّض العملة الوطنية للهجوم الممنهج هو خرق للسيادة الوطنية، وإذا كان غياب قوانين تسمح بملاحقة المضاربين على المستوى العالمي هو أمر واقعي، فإن الهجوم على العملة لأهداف سياسية يُعتبر اليوم من الأسلحة الفتاكة بحق الدول، وبالتالي فقدانها لسيادتها.
إجتماعياً: خرق دولة لشرعة حقوق الإنسان والإجراءات التي تتخذها الدول الأخرى لمعاقبة هذه الدولة، تشكّل خرقًا للسيادة بمفهومها البسيط وتشكّل نوعا من التخلّي الإرادي عن المفهوم المطلق للسيادة الوطنية، إلا إذا كانت الدولة قد وقّعت على معاهدات دولية خلال انضمامها الى مؤسسات دولية (أمم متحدة وغيرها).
لبنان يقع في إطار الارتباط المالي والاقتصادي والاجتماعي… مع الخارج، وبالتالي فإن الصراعات الدولية والإقليمية تُترّجم بصراعات داخلية على السلطة أو حتى في بعض الأحيان صراعات مسلّحة على مثال الحرب الأهلية التي عصفت بلبنان في سبعينيات القرن الماضي واستمرّت على مدى خمسة عشر عامًا. ومع انتهاء الحرب، انتقل الصراع من الأرض إلى الساحة السياسية لتعجز الدولة اللبنانية عن فرض سيادة حقيقية بمعناها الاقتصادي والمالي والاجتماعي… على أراضيها، وما التهريب والتهرّب الضريبي إلا مثال على خرق السيادة الوطنية.
فإن عملية التعطيل في الاستحقاقات الدستورية (مثلًا تشكيل الحكومة أو انتخاب رئيس للجمهورية) يُصنّف في خانة خرق السيادة الوطنية. إذا كان للشعب اللبناني الحق في تقرير مصيره، وإذا كان لبنان بلدا ديموقراطيا، لماذا إذًا لا يتمّ الاحتكام إلى اللعبة الديموقراطية؟
إنتخاب رئيس للجمهورية خاضع للمصالح الدولية، وحتى ان التاريخ يُثبت أن قرار إنتخاب رئيس جمهورية في لبنان كان يتمّ بموافقة خارجية. من هذا المنطلق، نرى أن إنتخاب رئيس للجمهورية اليوم مستبعد نظرًا إلى احتدام الصراعات الدولية والإقليمية، وأي إنتخاب لن يكون إلا ضمن إتفاق بين هذه الدول التي تمتلك قدرة تعطيل وتأثير في هذا الإستحقاق.
هذا الواقع ينطبق أيضًا على أوكرانيا التي تعيش حالة حرب بالوكالة بين الغرب والشرق. التأثير الروسي بأوكرانيا تمّ من خلال الأغلبية الروسية التي تقطن شرق أوكرانيا، في حين أن التأثير الغربي بأوكرانيا يتمّ من خلال العلاقات الوثيقة بين سكان المناطق الغربية مع الغرب. وبالتالي أصبحت أوكرانيا في خضمّ معركة لم تعد لها القدرة على إيقافها، وهي مستمرّة إلى حين توصّل روسيا والغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية لاتفاق يُنهي هذه المعاناة التي من المتوقّع أن تستمر لسنين.
وإذا كانت التداعيات الكارثية هي على الشعب الأوكراني الذي فقد سيادته الوطنية، إلا أن التداعيات السلبية على العالم كبيرة أيضًا. فبالإضافة إلى كون الأزمة رفعت أسعار الوقود ومعها التضخّم إلى مستويات تاريخية، وجوّعت العديد من الشعوب التي كانت تعتمد بالكامل على الحبوب الروسية والأوكرانية، هناك تداعيات على المدى الطويل ستستهدف النظام الاقتصادي العالمي.
فبمراقبة للإجراءات التي تأخذها الولايات المـتحدة الأميركية وحلفاؤها الأوروبيون من جهة وروسيا من جهة أخرى، نستنتج أن هناك توجّها عالميا نحو انقسام عمودي للتجارة والتعاون الاقتصادي بين الدول. هذا الإنقسام سيؤدّي إلى خلق قطبين إقتصاديين (وسياسيين):
– الأول مؤلّف من الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية وأوستراليا ونيوزيلندا وتايوان وكل الدول التي تدور في الفلك الغربي.
– الثاني مؤلّف من روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وفنزويلا وبالطبع الدول التي تدور في هذا الفلك.
هذا الأمر – إذا ما حصل – سيؤدّي حكمًا إلى خفض التبادل التجاري العالمي ومعه الناتج المحلّي الإجمالي العالمي، وستتعرّض منظمة التجارة العالمية إلى التفكّك (أو أقلّه الإضعاف بشكل كبير). والأصعب في ظل هذا السيناريو أن الدول ستبدأ استخدام حظر تصدير المواد الأولية والصناعات المتطوّرة إلى بعضها بعضا وهو ما سيعدّل حكمًا في هيكلية الإنتاج والاستهلاك في كل دول القطبين. وبحسب معلومات استحصلت عليها جريدة «الديار» من تجار عالميين، فإن روسيا طلبت من الصين في الفترة الأخيرة تزويدها بالعديد من السلع والمواد الغذائية بكمّيات كبيرة مصدرها ليس فقط الصين بل كل دول العالم، وهو ما يؤكدّ استمرار الأزمة إلى فترة طويلة ودخول العالم في سيناريو الانقسام العمودي.
في هذا الوقت، تمّت إعادة إحياء المفاوضات المتعلّقة بالاتفاق على البرنامج النووي الإيراني، وأرسلت إيران أولّ من أمس جوابها على اقتراحات الاتحاد الأوروبي إلى جوزب بوريل – وزير خارجية الاتحاد – مصحوبا بشروط إيرانية، على الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كان قد أرسل ما أسماه بـ «الاقتراحات النهائية» كما وصفها. وفي المعلومات، أن طهران طالبت الولايات المتحدة الأميركية بتنازلات إضافية حول ثلاث نقاط وافقت الولايات المتحدة الأميركية على اثنتين منها، وتبقى نقطة ثالثة عالقة وهي تتعلق بضمانة من قبل الولايات المتحدة الأميركية بعدم الانسحاب مستقبليًا من الاتفاق.
وعلى الرغم من هذا التطور الإيجابي، إلا أن العديد من العواصم الغربية تبقى متشائمة في ما يخص التوصّل إلى إتفاق، خصوصًا أن هناك لوبي كبير (يهودي بالدرجة الأولى) في الولايات المتحدة الأميركية يضغط باتجاه عدم توقيع إتفاق مع طهران.
وفي الوقت الذي تستمر فيه الحرب في أوكرانيا، تبقى أزمة الطاقة وارتفاع أسعار النفط عالميًا دافعًا أساسيًا للوصول إلى إتفاق على النووي الإيراني نظرًا إلى ما يمكن أن تضخّه إيران في سوق النفط، وما له من تأثير في التضخّم في الاقتصاد العالمي. فهل يتمّ التوصّل إلى مثل هذا الاتفاق؟ وحدها الأيام كفيلة بالردّ على هذا السؤال.
إلا أن السؤال الجوهري يبقى عن تأثير هذا الاتفاق في حال تمّ، بالمنطقة و بلبنان بالتحديد؟ العديد من المحلّلين السياسيين يرون أن هذا الاتفاق سيكون مقدّمة لتخفيف الضغط في العديد من الملفات، وعلى رأسها الأزمة اليمنية والأزمة السياسية في العراق وحتى في سوريا ولبنان. وإذا كان سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قد أكدّ في إطلالته الأخيرة أن توقيع الاتفاق أو عدم توقيه لا يؤثّر في قرار الحزب في ما يخص ملف التفاوض غير المباشر مع العدو الإسرائيلي، وأنه وحده حصول الدولة اللبنانية على حقوقها في الثروة الغازية والنفطية القابعة في البحر هو ما يحدّد الوضع الأمني، ترى مصادر أن توقيع الاتفاق سيؤدّي حكمًا إلى تليين الموقف «الإسرائيلي»، وبالتالي حصول لبنان على حقوقه.