أمّ موسى: حضن الوطن الدافئ
حيَّرني شعاعُ ضوءٍ خافتٍ استقرّ في عينيها الغائرتَين..
قالوا “إنها على هذه الحال منذ خمسٍ خلت.”
جرفتني عواطفي إلى بكاءٍ كنت نذرته صوماً. فمهمَّتي تقتضي التماسك والموضوعيَّة، واستقال سكوتي من منصبه فأطلقت وعداً: “سأقرأ على مسمعَيك ما سأكتبه عن أحمد، وستتعافى ذاكرتك من ألم الفراق”.
ثقةٌ لم أكُن أعرف مصدرها، كل ما أردته أن أكسر صمتاً لا يليق بما سمعته عنها.
“أمّ موسى أمّ الشهداء التي هزّت عرش الاحتلال بصناعتها”.
أيامٌ قضيتها وأنا أبحث في الأرشيف فوجدتها تتألق في مقاطع مرئية ويصدح صوتها الرخيم في أخرى صوتية، فرحت أشمخ معها حيناً وأذرف الدمع أحياناً عندما يلحُّ عليها حنينها.
في أحد مقاطع الفيديو، رأيتها تتحدث عنهم قائلةً: “لو كنت أعرف أن أحمد ذاهبٌ دون عودة لكنت حضنته وتنشّقت رائحته واختزنتها في داخلي، لكن أحمد خاف عليّ من قبلة الوداع.. بعدها أُصيبَ موسى وذاب كشمعةٍ جريحة أمام عينيّ وذابت معه روحي حتّى التحق بأخيه. أما ربيع العريس، فقد جاءني في تموز والسماء تلتهب، والطائرات تعبث بالأقدار، بدا أكثر جمالاً وأشد حناناً، قبّلني، تبعته، استدار وقال: عودي يا أمّي. ففتحت يديّ وأجبته: أريد أن أحضنك، أن أودّعك مرة ثانية..”.
لم تخفِ أمّ موسى أن شهادة ربيع كانت الأكثر إيلاماً، “لقد كسر قلبي” قالت.
بعد أربعين عاماً، حسمت الأم خيارها وغادرت.. لم أكُن أدرك أنّها في مدينة حبٍ تتقاسم جغرافيتها أمومة لا نظير لها، لم أكُن أعلم أن صراع عشقها يتربّع ما بين السماء والأرض، بين ثلاثةٍ اختاروا الفناء عشقاً وثمانيةٍ ما زالوا يؤدّون أمانتهم حبّاً.
أتيت اليوم، الناس مجتمعِين يشيّعون حضن الوطن الدافئ، وكلٌّ يقول لها كلمته الأخيرة، وصوت أبي موسى يطوف في المكان متناثراً: “لوين رايحة يا نور عيوني ورفيقة العمر”، أتيت لأقول لها: “قهرني موتك وانكسر القلم..”.
* الحاجة فوزية حمزة (أمّ موسى) والدة الاستشهادي أحمد قصير والشهيدَين موسى وربيع قصير، توفيت في 11 آب 2022 في بلدة دير قانون النهر.