«إحياء» التراث المقاوم: أبعد من حفظ الذكرى
فور دخولك إلى مكتب مسؤولة الجمعية تقع عيناك على معطف عسكري معلّق وداخله بزّة. تستبق رعد فضولك وتخبرك بأنّها تعود إلى الاستشهادي عمار حمود، ولم يرها أحد منذ 21 سنة. هذه بزّة لجيش العدو استخدمها الاستشهادي لعبور الشريط المحتل سابقاً تحت أعينهم ومن دون أن يلاحظوه. تسترسل بالحديث عن آثار وحل الطرقات والأنهر التي عبرها قبل الوصول إلى مقصده. هي تتكلم، وأنت تعود في خيالك إلى مشهد الشهيد عندما لبسها واستعدّ ومضى. نحن أهل الشريط المحتل لا يمكن أن يخرج من وجداننا حبّ هؤلاء الذين فتحوا لنا طرقات العودة وأزالوا المعابر والدشم والمواقع المستحكمة لننعم بالحرية. تفيض جدران المكان بصور الشهداء وأغراضهم. العاطفة التي تغمرك أمام كلّ أثر تجعلك تقف وتأخذ الكاميرا وتضعها على عينيك لتخفي احمرارهما. تلتقط الصور لأسر اللحظات، وسرقة عبارات الشهداء المكتوبة على قصاصات ورقية. كلّ قصاصة قصة، أحدهم كتب على وصفة طبية لمستوصف، وآخر ختم عبارته بـ”أحبكم، أحبكم، أحبكم”.
كتابة السِير
يهتم المركز بحفظ التاريخ الشفهي لشهداء المقاومة الإسلامية في لبنان. أي كتابة سيرتهم الذاتية من الطفولة حتى الاستشهاد. بدأ التدوين مع سيرة الشهيد سمير مطوط – جواد (جواد موج لا شاطئ له)، وسُمي بـ”فاتح عهد الكتابة”. كلّ شهداء المقاومة مستهدفون بهذا المشروع، على اختلاف المراحل، منذ عام 1982 حتى اليوم. تُكتب سيرة حياتهم بتفاصيلها كلّها: النشأة، الدراسة، العمل وحتى قصصهم المروية على لسان الأهل والجيران والأصدقاء. والكتابة دائماً مشروطة بعدم سلخ الشهيد عن بيئته التي عاش فيها. “نحاول إعادة تدوين كلّ شيء، والإحاطة بكلّ أبعاد شخصية الشهيد، حتى جغرافية المنطقة التي كان فيها نستعيدها وكذلك الأحداث التي عايشها” تقول رعد.
تهدف الجمعية إلى جملة من الأمور أهمّها مواجهة الحرب الثقافية، أو ما يُعرف بالحرب الناعمة، عبر نشر هذه المواد المكتوبة عن الشهداء. “تربوياً، نساعد على إحداث تغييرات إيجابية في حياة الشباب عندما يطّلعون على مآثر الذين مضوا. والأهم هو حفظ التاريخ وتدوينه، للحفاظ على الهوية والانتماء”.
لا يمسّ محتوى الروايات أمن المقاومة أبداً. هم، الأمن، موجودون في بعض لجان التقييم ولكن حتى اليوم لم تُلغَ أي معلومة بشكل مباشر. “الكتبة في الجمعية لديهم هذه الملكة الأمنية ويدركون تماماً أنّ ما يؤذي المقاومة لا يجب نشره أبداً” تقول رعد وتقدّم مثالاً عن الشهيد راني بزي (استشهد في حرب تموز 2006)، الذي كان عميلاً مزدوجاً. اعتُقل في الخيام وتحرّر يوم سقوطه في عام 2000. “في لجنة تقييم هذا الكتاب كان هناك شخص من الأمن يتابع المادة المكتوبة كي لا يستفيد العدو من أيّ معلومة فيها”.
كما تهتم الجمعية بمعرفة الجذور التاريخية التي رسمت شخصيات الشهداء “مثلاً الاستشهادي الأول أحمد قصير، عائلته الملتزمة لها بصمة واضحة في نشأته وتصرفاته وسلوكه لطريق الاستشهاد. ترك الاغتراب لحظة وقوع الاجتياح عام 1982. والده كان الرجل المؤمن في البلدة الذي يعود إليه الناس في بعض أمورهم الدينية. وكذلك جدّه لوالده كان “شيخاً على الطربوش”. لم يتابع تحصيلاً علمياً دينياً مكتملاً بل حضر بعض الدروس وعليه أُلبس “طربوشاً” وصار الناس يلجأون إليه لحلّ مشاكلهم”.
مستشفى للآثار
بالإضافة إلى كتابة سير الشهداء، يشمل عمل الجمعية كل ما يتعلق بمقتنياتهم وأغراضهم الخاصة. فتُعقّم وتُغلّف وتُحفظ في أماكن مبرّدة دون رطوبة. والهدف من هذه العملية حفظ هذه الآثار وعرضها لاحقاً في متاحف متخصّصة.
كما أنّ طبيعة مسيرة المقاومة الممتدة منذ عام 1982 حتى اليوم فرضت على الجمعية التعامل مع مواد صوتية بتقنيات قديمة، مثل الكاسيت وفيديو VHS. تعالج هذه المعلومات وتنقل إلى وسائط حديثة مع الاحتفاظ بالأوعية الموجودة كأثر. وكذلك الورقيات (الرسائل والخواطر والوصايا) يجري التعامل معها بتأنٍّ. تُرمّم ويوضع لها مثبت خط، “نحن نعمل وكأنّنا في مستشفى للآثار ومن المستحيل أن نسمح باستعمال القطع الأصلية، ما يجري التعامل معه من قبل الكتاب والباحثين هو النسخات والصور”.
ويجري إنشاء قاعدة معلوماتية يمكن للباحثين الاستفادة منها في شتى الميادين. فتقدّم المعلومات للإعلام لإنتاج مواد تتعلّق بشهداء المقاومة. لدى الجمعية 35 ألف ساعة تسجيل (مقابلات) مؤرشفة، 27 ألف وثيقة خاصة بالشهداء (أوراق ثبوتية، وصايا، كتابات…)، 22 ألف قطعة رمزية للشهداء (أسلحة، ملابس عسكرية ومقتنيات خاصة).وفي جولة على أقسام الجمعية لمعاينة مراحل العمل، أكثر ما يلفت نظرنا هو المساحة المفتوحة لعمل الكتبة. فتعرّف عنهم مسؤولة الجمعية بالاسم مع ذكر ما أنجز كلّ واحد منهم. هذه صاحبة كتاب “مخرّب 5107″، وتلك تعمل على سيرة الشهيد “علي زنجاني”، فزارت مدينة حلب السّورية لتتعرّف إلى جغرافيا المنطقة وأين كان الشهيد قبيل استشهاده. هذه النقطة على أهميّة عالية في الكتابة، إذ ينتقل الكتبة لمعاينة الأمكنة التي مرّ فيها الشهداء: مواقع عسكرية، بيوتهم، مدارسهم وحتى الأحياء التي عاشوا فيها. وفي بعض الأحيان يتعرّض الفريق العامل لمخاطر أثناء تنفيذ العمل، ففي أحد مواقع العدو المهجورة داست كاتبة على لغم أرضي، ولحسن الحظ لم ينفجر. وعلى الرغم من هذه المخاطر، يعمل الكتاب والباحثون في الجمعية ببدل وبدونه، إذ ترفض الأكثرية منهم تقاضي أجر على العمل. هم يرون في أنفسهم مروّجين لثقافة المقاومة والشهداء لذا…”قل لا أسألكم عليه أجراً”.
منهجية الكتابة
هناك العديد من المتغيّرات يجب الالتفات إليها عند الكتابة مثل الشخصيات التي تستقي منها المعلومات. حتى شخصية الشهيد التي تُجمع عنها المعلومات. هناك شهداء، شخصيتهم العلمية طاغية وآخرون اجتماعية.
وعليه، تجري كتابة المادة على عدّة مراحل. في المرحلة الأولى، يكون النقل مباشرةً تحت تأثير الحدث مع ما يحمله من مشاعر لا يمكن الاعتماد على كلّ ما سيرد فيها من معلومات. ومن بعدها تأتي مراحل متعدّدة وفيها نعود إلى نفس المكان، هذه المرّة بعد مرور فترة من الزمن. نأخذ القصة ذاتها من الشخص ذاته ونقارن المعلومات بعضها ببعض. أخيراً يمكن الاعتماد على روايات متعدّدة لأشخاص عاصروا الحدث ومقارنتها ببعضها. هذه تقنية التأريخ المعتمدة في الجمعية. الحقائق المروية ممنوع المبالغة فيها، كما يجب مراعاة الأمانة العلمية في النقل.
ليسوا جبالاً من الصبر
غالباً ما يتمّ تصوير أهالي الشهداء على أنّهم “جبال من الصبر”. لا تمثل هذه الصورة كلّ الحقيقة، بل هي ذلك الجزء من جبل الجليد الظاهر خارج المياه. أما من الداخل فهؤلاء الأشخاص يشعرون بالحب وبالحنين وبالاشتياق إلى أبنائهم الراحلين بـ”ذكاء”. فالشهادة هي موت الأذكياء. الشهيد أتى من أمّ محبّة لها قلب يفتش كلّ لحظة عن ابنها في أرجاء المنزل. محظوظة هي أمّ الشهيد الذي تزوج وترك لها أبناءً يؤنسون وحدتها. وحتى الأبناء، ليسوا بآلات تمّت برمجتها على العيش مع الفقد. أحد أبناء الشهداء، في ليلةٍ عاصفةٍ يطلب من جدّته أن تشتري له الآن بطانيةً وشمسيةً. تستغرب الجدة وتزيده بطانية ظناً منها أنّه يشعر بالبرد، فيردّ: لا، لا أريدها لنفسي بل لأبي. أبي الشهيد ليس معنا في المنزل، وهناك حيث هو مدفون لا بدّ أنه يشعر بالبرد. أريد تغطيته وحمايته من المطر.
تجب الكتابة لأجل هؤلاء.