مهما تكن التقديرات التي حضرت في ذهن القيادتَين السياسية والأمنية في تل أبيب، لدى اتّخاذ قرار العدوان على المقاومة في قطاع غزة، واغتيال قادة عسكريين كبار في حركة «الجهاد الإسلامي»، فإن آخر ما ترغب فيه إسرائيل هو التدحرج إلى مواجهة طويلة تؤدّي إلى قصف عمقها الاستراتيجي وشلّ حياة مستوطِنيها، وأن يجري كلّ ذلك عشيّة الانتخابات، وبعدما دأبت الاستخبارات العسكرية «أمان» على الترويج أن معركة «حارس الأسوار/ سيف القدس»، ستؤدّي، بحسب رئيس الشعبة اللواء أهارون حليفا، إلى خمس سنوات هدوء على الأقلّ، إلّا أن الفترة الفاصلة بين المعركتَين كانت هي الأقصر في تاريخ جولات القتال بين الاحتلال والمقاومة (سنة وثلاثة أشهر فقط)، في ما يجلّي هشاشة الأسس التي استند إليها الإسرائيليون في تقدير إنجازاتهم المفترضة. وبدلاً من أن يتحقّق تفكُّك الساحات الفلسطينية، وفق ما راهنوا عليه، تَعزّز ارتباطها وأصبحت أكثر اتّحاداً، وتحوَّل هذا الواقع إلى محدّد رئيسٍ يحكم المرحلة. وهو معطى يؤكد فشل الأهداف التي جاهرت بها إسرائيل، ويعمّق فقدان الجمهور الإسرائيلي ثقته بشعار أن «الجيش بات مستعدّاً لكلّ السيناريوات».
انطلاقاً من ذلك، فإن المواجهة التي تخوضها حركة «الجهاد الإسلامي» لا تتعلّق بمتغيّرات ظرفية فقط، وإنّما هي جزء من مسار واستراتيجية أوسع نطاقاً وأخطر تأثيراً على الأمن الإسرائيلي. فجذورها وخلفيّاتها، كما أظهرت المواقف والشعارات الإسرائيلية أيضاً، ترتبط بشكل وثيق ومباشر بمعركة «سيف القدس». وممّا يؤكد هذا الارتباط، العامل المباشر الذي دفع العدو إلى شنّ عدوانه الأخير، والمتمثّل في تداعيات اعتداءاته في الضفة على مستوطنات «غلاف غزة». ولذا، فإن إسرائيل تهدف من الضربات التي وجّهتها بشكل أساسيّ إلى «الجهاد»، حتى الآن، إلى محاولة كبح نتائج معركة «سيف القدس»، والتي لا تزال تتوالى بفعل صمود المقاومة وتصاعد قدراتها. وهي محاولة ربّما ستتّخذ منعطفاً خطيراً، سيؤدي إلى اتّساع نطاق المواجهة، في حال قيام الصهاينة المتطرّفين باقتحام المسجد الأقصى في ذكرى «خراب الهيكل» في التاسع من آب، حيث سيفتح تطوّر كهذا الباب على دخول حركة «حماس» على خطّ المعركة. ومهما يكن، فإنّ ما قامت به المقاومة، ولا تزال، يعيد وصْل ما عملت إسرائيل على تفكيكه في السنوات الماضية، على أمل أن يصبح لكلّ ساحة (غزة والضفة والقدس والداخل) قضاياها الخاصة وأولوياتها التي تتحدَّد وفق ظروفها الجغرافية والسياسية والمعيشية والأمنية. وقد شكّلت معركة «سيف القدس» محطّة تأسيسية في المسار المذكور، عبر إعادة تصويب البوصلة إلى المشترك البيني، وتجديد التعاون والتآزر في مواجهة أيّ عدوان إسرائيلي. وتجلّت نتائج تلك المعركة في اضطرار قيادة العدو مراراً إلى تفعيل الكثير من الحسابات لدى دراسة خطواتها العدوانية، تجنُّباً لاستدراج ردود من المقاومة في القطاع. لكن وكما هو متوقّع منه، فلا بدّ للعدو من أن يقع في المحظور كونه لا يستطيع إلّا أن يكون عدوانياً ومهاجماً.

ومن هنا، تَجدّدت محاولة إعادة تفكيك الساحات، وتدفيع المقاومة وسكّان غزة ثمن هذا الإنجاز – الربط. وفي مواجهة ذلك، تخوض المقاومة، من خلال «وحدة الساحات»، معركة منْع العدو من شطب إنجازات «سيف القدس» أو إضعافها، وتكريس تلك الإنجازات تمهيداً للبناء عليها وتطويرها، باعتبارها الثقل الاستراتيجي العسكري الذي يظلّل الساحات كافة. وعليه، ليس من المبالغة التأكيد أن هدف التفكيك سيسقط عند أوّل ردّ صاروخي من المقاومة في غزة، على أيّ اعتداء إسرائيلي لاحق في أيّ ساحة من الساحات، تماماً كما يسقط حالياً مع كلّ صاروخ يستهدف العمق الإسرائيلي في هذه الجولة. مع ذلك، ينبغي عدم إغفال التقديرات التي سادت لدى جهات التقدير والقرار في كيان العدو، وحفَّزتها على المبادرة إلى هذا العدوان. فإلى جانب الجهوزية الاستخبارية والعملياتية، فقد قدّرت القيادة الإسرائيلية أن حركة «حماس» مكبَّلة باعتبارات هي التي ستحدّد قرار تدخّلها العسكري وحجمه ووتيرته والمدى الذي يمكن أن يبلغه؛ باعتبار الحركة هي المسؤولة عن الوضع في القطاع، إلى جانب كونها تنظيماً مقاوِماً، أي أنها في الوقت الذي تُواصل فيه تطوّرها التسلّحي لمعركة ستقع عاجلاً أو آجلاً، فهي أيضاً ملزَمة بتوفير الأموال ومواد البناء. وعلى رغم أن التقدير المذكور ثبتت صحّته إلى الآن، إلّا أن إسرائيل تدرك أن «حماس» غير مردوعة، وإنّما هي فقط تزِن الأمور بميزان عقلاني، وهو ما تحاول تل أبيب استغلاله عبر تجنُّب ما ترى أنه سيؤدي إلى حشر الحركة ودفعها إلى تدخّل عسكري واسع.
هكذا، أرادت إسرائيل إيصال رسالة مفادها أنها عندما تواجه تهديداً تُبادر ولا تنتظر الردّ. لكنها قد تكون بذلك وقعت في فخّ المبالغة في الرسائل والنتائج، لأنها تواجه حتى الآن قوّة واحدة من قوى المقاومة في قطاع غزة المحاصَر من جميع الجهات، ولذا، فإن أيّ عِبر وخلاصات ينبغي أن تتناسب مع هذه الحقيقة. كما أن استطالة أمد المعركة ستؤدي إلى تآكل النتائج التي تفترض إسرائيل تَحقُّقها، فضلاً عن أنها ستَدفع «حماس» إلى المشاركة، وخصوصاً في حال اشتعال الوضع في المسجد الأقصى، وهو أمر يحضر لدى جميع المعنيّين في إسرائيل. من جهة أخرى، تَبرز إلى جانب الدوافع السياسية والانتخابية لدى رئيس الحكومة يائير لابيد، ووزير الأمن بني غانتس، اللذَين يأملان أن تصبّ نتائج هذه الجولة في صناديق الاقتراع، مصالح رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، الذي تنتهي ولايته بعد عدّة أشهر، ويحرص على ألّا يختمها بـ«وصمة» فشل أو توريط لإسرائيل، ولذا فهو يسعى أيضاً إلى محاولة وقْف العدوان عند هذه المرحلة.

في كلّ الأحوال، تؤكد التجارب الطويلة للمقاومة في قطاع غزة أن أيّ جولة مهما بلغت فيها نسبة التدمير بحُكم تفوّق إسرائيل العسكري، فهي لن تسلب إرادة المقاومة في الردّ والدفاع والردع، كما لن تؤدّي إلى إضعاف قدراتها، وهو أمر لم يتحقّق في جولات أشدّ وأطول مدى ممّا جرى حتى الآن. وفي هذا الإطار، حذّرت صحيفة «هآرتس»، في افتتاحيتها، من أن «جولات القتال الكثيرة تُعلّمنا أنه على رغم التفوّق العسكري لإسرائيل، فإنّ الردع ليس ناجعاً، وفي كلّ ما يتعلّق بالحرب ضدّ الإرهاب، من الصعب جداً قطْع الصلة بين الضفة والقطاع؛ وأن شعار الجيش الإسرائيلي مستعدّ لكلّ سيناريو سبق أن فقد ثقة الجمهور، وأيضاً لم يَعُد بالإمكان مناقشة الدعوة إلى تقويض «البنية التحتية للإرهاب» بجدية.