د. عادل مشموشي-اللواء
انتخاب رئيس للجمهوريَّةِ هو استِحقاقٌ دستوريٌّ روتينيٌّ في جميعِ الدُّول ذات النِّظم الجُمهوريَّة، إذ تؤمن انتَقِالاً سلساً للسُّلطة من الرَّئيسِ المُنتَهِيَةِ ولايتهُ إلى رَئيسٍ جَديد بالانتِخابِ لا بالوِراثَة، يضمنُ تكريسَ مَبدأ دَوام العَمَلِ في مؤسَّساتِ الدَّولَةِ الدُّستورِيَّة، وانتِظامُ العَملِ في القِطاعِ العامِ بإداراتِه ومُؤسَّساتِه الرَّسمِيَّةِ ومرافِقه العامَّةِ، لتمكينِ الدَّولةِ من القِيامِ بالمَهامِ المُناطَةِ بها على الدَّوامِ بما في ذلك تَوفير الخدماتِ للمواطنين ولمُختلِفِ المُقيمين في إقليمِها، إلاَّ أن إنجازَ هذا الاستِحقاقِ في موعِدهِ المُقرَّرِ بالنِّسبة لنا كلُبنانيين أضحى أشبهَ بأعجوبَةٍ أو مُعجِزَةٍ إلهيَّةٍ وخاصَّةٍ خلالَ العُقودِ الأربَعَةِ الأَخيرَة.
لبنانُ واللبنانيونَ في أَحوَجِ ما يكون لاحتِرامِ مَبدأ دَيمومَةِ انتِظامِ العَمَلِ في مختلفِ وحداتِ الدَّولَةِ السِّياسيَّةِ والإداريَّةِ والخدماتيَّة، واحتِرامِ مواعيدِ الاستِحقاقاتِ الدُّستوريَّة، وبخاصَّةٍ في ظِلِّ الظُّروفِ الاستثنائيَّةِ والأوضاعِ المَعيشيَّةِ العَصيبَةِ اللتينِ يُعاني مِنهُما اللُّبنانيون، وعلى أملِ تخَطِّي هذِه المَرحَلَةِ الحَرِجَةِ بأقلِّ قَدرٍ من الخَسائر والمُعاناة.
من حَقِّ اللُّبنانيين كُلِّ اللُّبنانيين أن يَعيشوا في وَطَنٍ آمِنٍ ومُستَقِرٍ سِياسِيَّاً واقتِصاديَّاً ومالِيَّا واجتِماعِيَّا، هذا الاستِقرارُ لا يُمكِنُ تَحقُّقهُ من دون انتِظامِ سَيرِ العَملِ في المؤسَّساتِ السِّياسِيَّة، فَكيفَ إذا كانَ الخَلَلُ المَشكو منه هو الفراغ في مَوقِعِ رِئاسَةِ الجُمهورِيَّة، نتيجَةَ تَعطيلِ استِحقاقِ الانتِخابِ الرئيس في مَوعِدِه لاعتِباراتٍ واهيةٍ فئويَّةٍ طَوراً وشَخصِيَّةٍ أطواراً أُخرى.
من حقِّ اللبنانيينَ أن يَكونَ لدَولَتِهم رَئيساً على الدَّوام، لأن رَئيسَ الجُمهوريَّةِ هو الأَبُ الرُّوحِيُّ للدَّولَة، والسَّاهِرُ على حُسنِ أداءِ مؤسَّساتِها، وهذا ما يُستشفُّ من مَطلعِ الفَقرَةِ الأولى من المادَّةُ 49 من الدستور «رئیس الجمهوریة هو رئیس الدولة ورمز وحدة الوطن…»، ولا يستقيمُ النشاطُ السِّياسيُّ والأداء الوظيفي في مُختلِفِ قِطاعاتِ الدَّولةِ من دونِ رَئيسٍ للجُمهوريَّة، وهذا ما يُستَخلصُ مما وردَ في نَصِّ الفَقرَةِ المُنوَّهِ عَنها «… یَسهَرُ على احتِرامِ الدُّستورِ والمُحافَظَةِ على استِقلالِ لُبنان ووحدَتِهِ وسلامَةِ أراضیهِ وَفقاً لأَحكامِ الدُّستور. یرأسُ المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوات المُسلَّحَةِ التي تَخضَعُ لِسُلطَةِ مَجلِسِ الوزراء». وحِرصاً من المُشرِّعِ الدُّستوري على استِمراريَّةِ الدَّورِ المُلقى على عاتِقِ الرَّئيسِ أكَّدَ النَّصُّ الدُّستورِيُّ على انتِخابِ رَئيسٍ جديدٍ قَبلَ انتِهاءِ وِلايَةِ الرَّئيسِ الذي تُشارِفُ ولايَتُهُ على الانتِهاء، بحيث أوجَبَ على المَجلِس أن يَلتَئمَ بدَعوَةٍ من رَئيسِهِ لانتِخابِ رَئيسٍ للجُمهورِيَّةِ حَصرا، ولم يَكتَفِ بذلك إذ أوجَبَ اجتماعَ المَجلِسِ حُكماً في اليومِ العاشِرِ الذي يَسبِقُ موعِدَ انتِهاءِ ولايَةَِ الرَّئيس، وهذا ما عَبَّرَ عنه بوضوحِ نَصُّ المادَّة 73 من الدُّستورِ «قَبلَ موعِدِ انتِهاءِ ولایَةِ رَئیسِ الجُمهورِیَّةِ بمُدَّةِ شَهرٍ على الأقلِّ أو شَهرین على الأكثرِ یلتَئمُ المَجلِسُ بناءً على دَعوَةٍ من رَئیسِهِ لانتِخابِ الرَّئیس الجَدیدِ، وإذا لم یُدعَ المَجلِسُ لهذا الغَرَضِ فانَّهُ یَجتَمِعُ حُكما في الیومِ العاشِرِ الذي یَسبُقُ أجَلَ انتِهاءِ ولایَةِ الرَّئیس».
ولم تَغب عن بالِ المُشرِّعِ الدُّستوري إمكانيَّةُ خُلوِّ سُدَّةِ الرِّئاسَةِ لأيِّ سَبَبٍ استِئنائيٍّ قاهِرٍ كالوَفاةِ أو الاستِقالةِ أو أيِّ سَببٍ آخَرَ كَمَرضٍ عُضالٍ أو ما يُفقِدهُ الوعي، فَأوجَبَ المُشرِّعُ اجتِماعَ مَجلِسِ النُّوابِ فَوراً لأجلِ انتِخابِ رئيسٍ للجُمهوريَّة، وهذا ما أكَّدتْهُ المادَّةُ 74 من الدُّستور «إذا خلت سدة الرئاسة بسبب وفاة الرئیس أو استقالته أو لِسَببٍ آخَرَ فلأجلِ انتِخابِ الخَلفِ یَجتمِعُ المَجلِسُ فَوراً بحُكمِ القانون…» ومن أهَمِّ الضَّوابِطِ التي اعتَمَدَها المُشرِّعُ الدُّستورِيُّ لتَلافي الفَراغِ في سُدَّةِ الرِّئاسَةِ يَتَمَثَّلُ في ما نَصَّت عليهِ المادَّةُ 75 من الدُّستور، «إن المَجلِسَ المُلتئمَ لانتِخابِ رَئیسِ الجُمهورِیَّة یُعتَبَرُ هَیئةً انتِخابِیَّةً لا هَیئةٌ اشتراعِیَّةٌ ویَترَتَّبُ علیه الشُّروع حالاً في انتِخابِ رَئیسِ الدَّولَةِ دون مُناقَشَةٍ أو أيِّ عَملٍ آخَر». حيثُ حُصِرَت صلاحيَاتُ المَجلسِ بانتِخابِ الرَّئيس من دونَ أي عَمَلٍ آخَرَ بل جَرَّدتِ المَجلِسَ من صِفَتِه الاشتراعِيَّةَ بمُجرَّدِ التِئامِهِ فِعليَّاً أو بحُكمِ القانون بغَرَضِ انتِخابِ رَئيسٍ للجُمهورِيَّة.
وتَدارُكاً لأيِّ تَعطيلٍ أو شَلَلٍ خِلاَلَ فَترَةِ خُلُوِّ سُدَّةِ الرِّئاسَةِ أناطَ المُشرِّعُ، استِثناءً، صلاحِيَّاتِ رَئيسِ الجُمهورِيَّةِ بمَجلِسِ الوزراء، وهذا ما تَنُصُّ عليه المادَّةُ 62 من الدُّستور «في حالِ خُلوِّ سدَّةِ الرِّئاسَةِ لأيِّ عِلَّةٍ كانت تُناطُ صَلاحِیَّاتُ رَئیسِ الجُمهورِیَّةِ وكالَةً بمَجلِسِ الوزراء…». ونرى أن المُشرِّعَ الدُّستورِيَّ قد تَعَمَّدَ استِعمالَ كلمَة «وِكالَة»، موحِياً بأن الصَّلاحِيَّاتِ الرِّئاسِيَّةِ صَلاحِيَّاتٌ أساسِيَّةٌ لا يُمارِسُها إلاَّ الرَّئيس، ولا يُمكِنُ لأَيِّ سُلطَةٍ القِيامُ بها إلاَّ لِمَجلِسِ الوزراءِ مُجتَمِعاً وكاستِثناءٍ على القاعِدةِ ومؤقتاً، لتجاوزِ مُستَجِدَّاتٍ قاهِرَةٍ، كَوفاةِ الرَّئيسِ أو استِقالَتِهِ أو لمَرَضِ عضالٍ ألمَّ به حالَ دونَ ممارستِه لمهامِه…
لم يكن ليَدورَ في خُلدِ المُشرِّعِ الدُّستوري أنه رَغمَ كُلِّ تلكَ الضَّوابِطِ المُشارِ إليها وغيرِها من النُّصوصِ والأعرافِ الدُّستوريَّةِ المُسهِّلةِ لهذا الاستِحقاقِ المِفصَليِّ، ومن بينِها اعتِمادُ السِّريَّةِ في الاقتِراعِ (لتلافي الضَّغط أو الاحراج اللذين يُمكِنُ أن يَتعرَّض لهما النُّواب) وأن يتِمَّ الانتِخابُ بغالبيَّةِ الثلثينِ في الدَّورةِ الأولى وبالغالبيَّةِ المُطلقةِ في دوراتِ الاقتراعِ التي تلي وفقَ ما نصَّت عليه الفقرة الثانية من المادَّة 49 من الدُّستور، أن مُخيِّلاتِ وقَريحَةَ سياسيينا سَتبتَدِعُ الكَثيرَ من الفَتاوى التي تُبَرِّرُ المُمارساتِ التَّعطيلِيَّة، التي تُحلِّلُ المُحرَّماتِ، وتُحِلَّ الاستثناءاتِ مَكانَ الأَساسِيَّات، وتجعَلُ من الفَراغِ في مؤسٍّساتِنا الدُّستورِيَّةِ وغيرِ الدُّستوريَّةِ ظاهِرَةً مألوفَةً، توجِبُ علينا كلُبنانيينَ الَتَكَيَّفَ مَعَها. ولو استشعرَ المُشاركونَ في صياغةِ الدُّستورِ شيئاً من النوايا التَّعطيليَّةِ لأورَدوا تَفصيلاتِ ولو غير مألوفَةٍ في دَساتيرِ الدُّولِ إنما تَتناسَبُ مع الخُصوصِيَّاتِ اللبنانيَّةِ، ولكانوا اعتِمدواِ عِباراتِ التَّحريمِ والحَظرِ، للحؤولِ دونَ اللجوءِ إلى ما عرفناهُ من سُلوكِيَّاتٍ تَنطَوي على خَرقٍ فاضِحٍ لروحِيَّةِ النُّصوصِ الدُّستورِيَّةِ والقانونِيّة.
لا نغالي إن قلنا أن تَعطيلَ المؤسَّساتِ يُردُّ إلى الإبتِزازِ السِّياسِيِّ وما ينطوي عليهِ من مُماحَكاتٍ ومُناكَفاتٍ مَبنيَّةِ على أغراضٍ مَصلَحِيَّةٍ فِئوِيَّةٍ حيناً وشَخصِيَّةٍ في أَحيانَ أُخرَى، لم يَجنِ لُبنانَ منها سِوَى المَزيدَ من الأَزَماتِ السِّياسيَّةِ الشَّائكَةِ التي أدَّت مُجتمِعَةً إلى انهيارِ الأوضاعِ الاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والنَّقدِيَّةِ التي تَسبَّبت بمُعاناتٍ مَعيشِيَّةٍ خانِقَةٍ لم يَعُد بمَقدورِ الشَّعْبِ اللُّبناني تَحَمُّلِ ويلاتِ تَبِعاتِها.
ومع اقتِرابِ مَوعِدِ الانتِخاباتِ الرِّئاسيَّةِ، يَهُمُّنا التَّأكيدُ على ضَرورَةِ إنجازِ هذا الاستِحقاقِ بموعِدِه، ولكن وفقَ مُقارَباتٍ وَطَنِيَّةٍ خالِصَةٍ، تأخُذُ في عينِ الاعتِبارِ حَراجَةَ المَرحَلةِ التي يَمُرُّ فيها لبنانُ واللبنانيون، في ظِلِّ الأوضاعِ الإقليميَّةِ غيرِ المُستقِرَّةِ، والأوضاعِ الدَّوليَّةِ المُتأزِّمَةِ، نتيجَةَ الحَربِ في أوكرانيا، وانعِكاساتِها الدَّولِيَّةِ سِياسِيَّاً واقتصاديَّا. من هنا دَعوَتَنا للمَسؤولينَ عن إنجازِ هذا الاستِحقاقِ بضَرورَةِ اعتِمادِ مَعاييرَ واضِحَةٍ مُتَجرِّدَةٍ تَكفَلُ وصولَ رَئيسٍ للجُمهورِيَّةِ، رَئيسٌ حَريصٌ على تَجنيبِ لُبنانَ الانعِكاساتِ السَّلبِيَّةِ للواقِعينِ الدَّولي والإقليمي، وقادِرٌ على رأبِ التَّصدُّعاتِ السِّياسِيَّةِ الدَّاخِلِيَّة، والدَّفعِ بالمَسؤولينَ إلى تَجاوُزِ اصطفافاتِهِم الحَادَّة، وتَوفيرِ مُقوِّماتِ انتِشالِ الدَّولَةِ من المُستَنقَعِ الذي رُمِيَت به، وحالةِ التَّفكُّكِ التي أًصيبَت بها، والفسادِ المستشري في كُلِّ مَرافِقِها والنُّهوضِ بها سِياسِيَّاً واقتِصادِيَّاً واجتِماعِيَّا.
الدَّولةُ بحاجةٍ إلى رَئيسٍ خالِصِ الانتِماءِ للوَطَن، لا يَحمِلُ سِوَى الجِنسِيَّةِ اللُّبنانِيَّة، مُيولُهُ وَطَنِيَّةٌ نَقيَّةٌ لا شَرقِيَّةٌ ولا غَربِيَّة، يُحسِنُ المُوازَنَةَ ما بين انتِماءِ لبنانَ لمُحيطِهِ العَربي وصَداقاتِهِ الإقليمِيَّةِ والدَّولِيَّة، مُدركٌ بذاتِ الوقتِ لمُقتضياتِ الصِّراعِ مع العدوِّ الإسرائيلي.
نُريدُ رَئيساً من خارِجِ مُعَسكَرَي 8 و14 آذار، رئيسٌ مُنزَّهٌ عن الاصطِفافاتِ الفِئوِيَّةٍ سَواءَ كانت طائفِيَّةً أو مَذهَبِيَّةً أو مَناطِقِيَّة، رَئيسٌ غيرِ مُلَوَّنٍ بأيِّ لَونِ من ألوانِ الأَحزابِ اللُّبنانيَّةِ المُتقوقِعَةِ مَذهَبِيَّا أو عقائدِيَّا؛ رَئيسٌ غيرِ مَشوبٍ باصطِفافاتٍ مِحوَرِيَّةٍ إقليميَّةٍ أو دولِيَّة.
وإنطِلاقاً من تلكَ المُسلَّماتِ المُنوَّهِ عنها نؤكِّدُ على كُلِّ الحَريصينَ على لبنان كما على مَوقِعِ رِئاسَةِ الجُمهورِيَّة أن يُبادِروا إلى تشكيلِ رأي عام ضاغِطٍ، لدَفعِ المَعنيين إلى تَبنِي هذه المَعاييرِ المُتَجَرِّدَةِ، والسَّعيِ إلى حَصرِ المُرشَّحين لِشِغلِ هذا المَنصِبِ بأشخاصٍ يَتَمتَّعونَ بهذهِ المُواصَفاتِ الوَطَنِيَّة، مِمَن يَحمِلون برنامَجاً إصلاحِيَّاً واضِحا ومُتَكامِلاً، ولَديهِم من الكفاءَةِ العِلمِيَّةِ والخُبراتِ العَمَلِيَّةِ والمَزايا الفَردِيَّةِ والأخلاقِيَّاتِ الإنسانِيَّةِ ما يَجعَلُهُم مُؤهَّلين لشِغلِ هذا المَنصِبِ المِحوَري في إعادَةِ بناءِ الدَّولةِ والنُّهوضِ بها، بَعيداً عن مَنطِقِ المُقارَباتِ التَّرقيعِيَّةِ المُرتَجَلَةِ، والتي تَقومُ على استِجداءِ القُروضِ والمُساعَدات.
وإن أردتم حلولا دائمة تحفظ الاستمرارية في عمل المؤسَّسات الدستوريَّة نقول لكل الحريصين على الوطن، والحضيضين بمقام رئيس الجمهوريَّة، والمنادين بتعزيز موقعه ومكانته، وهيبته، وتوقي الفراغ في سدة الرئاسة، عليكم بالسعي إلى انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، وإعطائه الحق في حل مجلس النواب في حالات مُحددة، وطرح الثقة بالحكومة لعلة إخلالها بواجباتها، مقابل إطلاق سراح الرئيس المكلف في تشكيل الحكومة في اختيار وورائها على ضَوء الاستشارات التي يُجريها وتحمُّل مسؤولية نيلها الثقة في المجلس النيابي، كما مسؤولية طرح الثقة بها لاحقا أو حجبها عنها عند تعثر أدائها.
01203766656584
109 5 دقائق