من بين القمم الأربع التي استضافتها طهران، بدت تلك التي جمعت الرئيسَين، الروسي فلاديمير بوتين، والإيراني إبراهيم رئيسي، الأكثر أهميّة، حيث عكست الاتفاقيات التي قاربت قيمتها الأربعين مليار دولار، إرادة تنمية العلاقات وشمولها المجالات كافة، وهو ما يبدو حتمياً في ظلّ ثبات ثلاث قوى رئيسة على مواجهتها للغرب، وهي روسيا والصين وإيران، فيما يمكن لقوى أخرى أن تقترب منها أو تبتعد عنها بحسب الظروف. أمّا التعاون التركي مع روسيا، فتمظهَر في تركيز بوتين ورجب طيب إردوغان على إنجاح مهمّة فتح ممرّ لتصدير الحبوب الأوكرانية إلى العالم، من دون أن يعني ذلك أن تركيا في وارد الخروج عن سياسة الحياد بين موسكو وكييف، مهما بلغت تبايناتها مع الغرب وواشنطن. وبالنسبة إلى العلاقات بين طهران وأنقرة، كشفت قمّة إردوغان – رئيسي عن خلل كبير في العلاقات؛ إذ إن الحديث عن تعاون تجاري بالكاد تصل قيمته إلى سبعة مليارات دولار يشكّل علامة سلبية، في أواصر بلدَين يفوق عدد سكّان كلّ منهما ثمانين مليون نسمة. وتُعتبر إيران من كبار مورّدي الغاز الطبيعي والنفط إلى تركيا، وبوّابة الأخيرة على آسيا، في حين تُعدّ تركيا بوّابة الأولى على أوروبا. ولا يفتأ مسؤولو البلدَين منذ سنوات يتحدّثون عن تطلّعهم إلى رفع حجم التجارة بينهما، من دون النجاح في ذلك، بل إن واردات تركيا النفطية من إيران تراجعت، بسبب بعض العقوبات الغربية، لصالح أذربيجان على سبيل المثال. وما يزيد الصورة سلبية أن حجم العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل ذات الخمسة ملايين نسمة، يزيد على تسعة مليارات دولار، على رغم التوتّرات بين الجانبَين في السنوات العشر الأخيرة. ولعلّ الهمّ الأساسي لإردوغان اليوم، هو الحصول من روسيا، كما إيران، على طاقة بأسعار أرخص لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة في بلاده، حيث بلغ تراجع سعر صرف الليرة أمام الدولار رقماً قياسياً أمس، بمقاربته الـ17.60 ليرة.
أمّا بخصوص «مسار أستانا»، فقد جاءت تصريحات الرؤساء الثلاثة لتُشكّل بمثابة عودة بالوضع إلى ما كان عليه في آذار 2020، عندما تمّ توقيع اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا، والاتفاق على فتح طريق «أم 4»، وانسحاب المسلّحين من جانبَيه. كما تُشكّل رجوعاً إلى اتفاق سوتشي المُوقَّع في تشرين الأول 2019، والذي قضى بانسحاب القوات الكردية إلى عمق 30 كيلومتراً، وهو ما تَعتبر تركيا أنه لم يتحقّق. وإذا ما صحّت الأنباء عن اتفاق على انسحاب كردي إلى عمق 30 كيلومتراً، وفتح طريق «أم 4»، فقد يكون ذلك نزعاً لفتيل التوتر. لكنّ التسليم والتسلّم بين «قسد» والجيش السوري، لن يكون ذَا فائدة عملية إذا بقي رمزياً كما حصل سابقاً، ولم يتطوّر إلى اتفاق سياسي كامل ينسحب على الأوضاع الميدانية، خصوصاً أنه في كلّ مرّة يرتفع فيها التهديد التركي، تعود «قسد» إلى التقارب مع دمشق، قبل أن تتراجع مع تراجُع التهديد. وإذ بدت لافتة تصريحات المرشد الإيراني، علي خامنئي، الذي حسم موقف بلاده بتحذير إردوغان من أيّ عمل عسكري في سوريا، بعدما أوحت تصريحات وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، بعد زيارة له إلى أنقرة أخيراً حول الهواجس الأمنية لتركيا، بشيء من الغموض، فالظاهر أن العملية العسكرية التركية مؤجَّلة – على الأقلّ -، إن لم يكن في انتظار تنفيذ اتفاقات سوتشي السابقة، فلأن الظروف الآن لا تبدو مناسبة. ولعلّ هذا التقدير عكستْه بوضوح الصحف الموالية لإردوغان، والتي أبرزت تأكيد الأخير عزم بلاده على «طرد الإرهابيين»، ما يعني – بوجه ما – أن العملية العسكرية في سوريا، بمعزل عن ساحة حركتها، ستظلّ – حتى إشعار آخر – حاجة ماسّة لإردوغان للظهور بمظهر «البطل الوطني والشجاع».
في الإطار نفسه، لم يكن ثمّة اتفاق على تعريف الإرهاب والإرهابيين، على رغم تعهّد الجميع بمكافحته في سوريا، إذ إن إيران تقصد به، إضافة إلى «داعش»، المجموعات المسلّحة في إدلب والتي تحظى برعاية تركية صافية، فيما أنقرة لا تعني به غير «وحدات الحماية الكردية» و«حزب العمال الكردستاني». ومع تشديد إردوغان على أهمّية عدم خرق وقف إطلاق النار في إدلب لأن هذا يهدّد كامل «مسار أستانا»، فالمتوقّع العودة إلى بعض الترتيبات المتبادلة، في وقت يُفترض فيه بهذه الأطراف أن تدفع بالحلّ إلى مراحل متقدّمة، بعدما فشلت قمم «أستانا» السبع (كان آخر اجتماع قبل قمّة طهران في عام 2019) في تحقيق خروقات جدّية على المستوى السياسي. ومن هنا، تَبرز أهمية أن تكون الدولة السورية جزءاً من ذلك المسار بدفْع من موسكو وطهران، لأن غيابها غير منطقي وغير عملي وغير مقبول، ولا يسهم إلّا في تأجيل حلّ المشكلات.
من جهة أخرى، بدا لافتاً وجود بلال، ابن إردوغان، ضمن أعضاء الوفد التركي إلى إيران، وهو ما طرح تساؤلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن الصفة التي يشارك بها بلال في القمة إلى جانب وزيرَي الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات ومستشار رئيس الجمهورية. وفي هذا الإطار، تساءل موقع «حزب الشعب الجمهوري»: «هل نحن دولة قبيلة؟»، في إشارة إلى أن الرئيس التركي كان يكرّر دائماً أن تركيا ليست دولة قبيلة وليست جمهورية موز.