في لقاء هو السابع من نوعه لقادة الدول الضامنة لـ«مسار أستانا» لحلّ الأزمة السورية، يستقبل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، نظيرَيه، الروسي فلاديمير بوتين، والتركي رجب طيب إردوغان، اليوم الثلاثاء في طهران، لمناقشة ملفّات عديدة، سواءً بشكل ثُنائي أو ثُلاثي. وتستهدف هذه النقاشات التوصُّل إلى نقاط مشتركة لخفض وتيرة التصعيد الذي شهده الشمال السوري خلال الأشهر الثلاثة الماضية، في ظلّ سعْي تركيا لشنّ عملية عسكرية ضدّ مناطق سيطرة «قسد» (قوات سوريا الديموقراطية)، التي تسيطر على جيبَين صغيرَين في ريف حلب، بالإضافة إلى مناطق في الشمال الشرقي حيث تتموضع قواعد عسكرية أميركية. والقمّة التي تأتي في وقت تستمرّ فيه الحرب الروسية على أوكرانيا على رغم محاولة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عزل موسكو وحصارها اقتصادياً، كانت مخطَّطة منذ أكثر من عام، غير أن ظروفاً مستجدّة عديدة منعت من انعقادها، بينها الحرب الروسية ذاتها، بالإضافة إلى وباء «كورونا» الذي دفع قادة الدول الثلاث إلى عقد القمّة السادسة الماضية (قبل نحو عامَين) عن بُعد عبر تقنية الفيديو.
ويأمل إردوغان اقتناص الظروف الدولية الراهنة للحصول على مكتسبات قبيل الانتخابات الرئاسية في تركيا العام المقبل. ومن هنا، يأتي سعْيه للتوغّل في سوريا بهدف تسجيل نقاط لصالحه في ملفَّين يشغلان الشارع التركي حالياً، أوّلهما اللاجئون السوريون؛ وثانيهما حزب «العمال الكردستاني» المحظور في تركيا، والذي تتّهم أنقرة حزب «الاتحاد الديموقراطي» الذي يسيطر على «قسد»، بأنه امتداد له، مع ما لهذا الملفّ من أهمية كبيرة في تعزيز حظوظ إردوغان، كونه يمسّ الشعور القومي التركي بشكل مباشر. في المقابل، يحمل الرئيسان الروسي والإيراني أجندة واضحة يمكن أن تمهّد لتفاهمات تمنع الانزلاق إلى مواجهات عسكرية مباشرة بين الجيشَين التركي والسوري، الذي كثّف حضوره أخيراً في الشمال. وسيطرح بوتين، الذي سيلتقي إردوغان للمرّة الأولى منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، خطوطاً عريضة لشكل المرحلة التي ترغب موسكو في ترسيخها في سوريا، التي تصرّ موسكو على أنها انتقلت من مرحلة الحرب والمواجهات العسكرية إلى مرحلة التوافقات السياسية التي تسمح بإعادة الإعمار. ومن جهته، سيطرح رئيسي مبادرة لفتح باب التواصل بين دمشق وأنقرة، بعد أن حصلت طهران على دعم العاصمتَين لهذه الجهود، خلال الزيارة التي أجراها وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، لهما قبل نحو أسبوعين. وعليه، ثمّة توقّعات بأن تَفتح القمّة الباب أمام الانتقال الفعلي إلى تنفيذ تلك التفاهمات، وهو ما يُفسَّر به ربّما سفر وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، إلى طهران، حيث سيلتقي في اليوم التالي للقمّة (صباح الأربعاء) نظيره الإيراني، للاطّلاع على نتائج اللقاء.

اللافت في اللقاء الذي تستضيفه طهران، التوافق العلني وغير المستجدّ بين الدول الثلاث على رفض الوجود الأميركي في سوريا، والذي يمثّل أرضيّة مشتركة يمكن أن توطّئ لعودة الانفتاح السوري – التركي، على الرغم من وجود شروط سورية عديدة لهذا الانفتاح، أبرزها وقْف أنقرة دعمها الفصائل المسلّحة في الشمال، وانسحابها من المناطق التي تحتلّها، وهي نقاط ناقشتها وفود أمنية سورية وتركية خلال لقاءات عديدة انعقدت – برعاية موسكو – قبل أكثر من عامين، ولم تصل حينها إلى أيّ نتيجة. وسبقت القمّةَ الثلاثية عمليةُ إعادة انتشار، ما زالت مستمرّة، للقوات السورية في مناطق حسّاسة، وهو ما أصرّت دمشق على إعلانه بشكل رسمي، وإدراجه في سياق استعادتها السيطرة على الشريط الحدودي، ما يتيح إبطال الذريعة التركية لشنّ عملية في سوريا، إذ يعادل هذا الانتشار، في حال اكتماله، تراجُع «قسد» نحو 30 كلم عن الحدود التركية، ما يعني وفاء روسيا بالتزاماتها بموجب تفاهمات عام 2018 مع تركيا، والقاضية بإبعاد «خطر الأكراد» مقابل حلّ ملفّ إدلب، الذي تماطل أنقرة في التعامل معه، الأمر الذي سيكون حاضراً خلال القمّة الثلاثية. على أن أنقرة، التي ما زالت تهدّد بين وقت وآخر بشنّ عملية عسكرية، تُمسك بدورها مجموعة من الأوراق، بعضها يتعلّق بالحرب الأوكرانية، وتفاهمات ثنائية مع موسكو حول تسويق الحبوب، وبعضها الآخر متّصل برغبة واشنطن الجامحة في إبعادها عن روسيا بهدف تضييق الخناق على بوتين، ما يمنحها فرصة أكبر للمناورة، على رغم ميلها الواضح إلى إيجاد حلّ دبلوماسي يمنع انزلاقها إلى مواجهات مباشرة مع الجيش السوري، وهو الميل الذي ارتكزت عليه طهران في مساعيها الأخيرة.

وبعيداً من التحليل أو التكهّنات، لم تأتِ القمّة الثُّلاثية بشكل عاجل، وإنّما جاءت بعد تفاهمات عديدة بين الدول الثلاث، رسمت ملامح المرحلة التي يبدو أنها ستُحقّق للأطراف مجتمعةً الحدّ الأدنى من التوافق، إذ سيكون بإمكان أنقرة أن ترتاح من «خطر الأكراد» عبر سيطرة الجيش السوري على ما تبقّى من مناطق حدودية مع تركيا. كما يمكن لموسكو تثبيت الوضع الذي خاضت لأجله صراعاً سياسياً حامياً في أروقة مجلس الأمن قبل أيام، انتهى بفرض رؤيتها لملفّ المساعدات الإنسانية، على قاعدة ضمان دفعة إنعاشية حقيقية لدمشق في ملفّ الكهرباء، ومنْحها سيطرة أكبر على هذا الملفّ، بما يتيح لها فتح أبواب تواصل مع المناطق الخارجة عن سيطرتها. ويُضاف إلى ذلك استكمال ملفّ المصالحات الذي أعيدَ تفعيله أخيراً، بما أنتج تخفيضاً مستمرّاً للتوتّر في مناطق عديدة في الشرق والشمال الشرقي، في مسار يُتوقّع أن يكتسب زخماً إضافياً في المرحلة المقبلة. كذلك، تأتي قمّة طهران بالتوازي مع تعطّل المسار الأممي المتمثّل في اللجنة الدستورية، جرّاء رفض دمشق تهميش موسكو التي طلبت نقل مقرّ الاجتماعات إلى مدينة أكثر حيادية من جنيف، ما يعني أن «مسار أستانا» بات في الوقت الراهن – وحتى إيجاد حلّ لمشكلة «الدستورية» – المسار الوحيد لحلّ الأزمة السورية، الأمر الذي يزيد بدوره من أهمّية هذه القمّة. وبالإجمال، تشير جميع الظروف التي سبقت لقاء طهران إلى أنه سيكون كفيلاً بتعميق العمل السياسي، والحدّ من العمل العسكري الذي نجح أطراف «أستانا» أصلاً في تجميده لسنوات عديدة، تخلّلها بعض التصعيد، الذي يجيء اللقاء لمنع تفاقمه.