لبنان مكبّاً للقاحات كورونا
آلاف اللقاحات ضد فيروس «كورونا»، التي يتلقّاها لبنان هبات أو يدفع ثمن بعضها، تتجه إلى التلف، بسبب تراجع نسبة التلقيح في المراكز، وأيضاً بسبب «العمر القصير» للهبات التي «ترميها» الدول الواهبة إلينا بدل أن تتكبّد كلفة إتلافها
ثمة فائض من السوريالية هنا، بين عملية التلقيح التي يجمع المعنيون بها على «فرملتها»، وبين إدارة لا تتوانى عن فتح ذراعيها لهباتٍ جديدة رغم الفائض المخزّن من اللقاحات. فهل الأزمة هنا في تقدير الأولويات؟ أم أنها أزمة سوء تصرّف؟
اليوم، تملك الوزارة أكثر 400 ألف جرعةٍ من لقاح «فايزر» لم تصرف منها إلى الآن جرعة واحدة، استحصل عليها لبنان عبر منصة كوفاكس covax. وهذا يعني أنها «لقاحات لقاء ثمنٍ يتكفّل لبنان بدفع جزءٍ منه». رغم ذلك، بقي الصدر رحباً لاستقبال المزيد. هكذا، وإضافة إلى ما هو «قيد الدرس»، استقبلت وزارة الصحة مطلع العام الجاري 429 ألفاً و600 جرعة (43 ألف قارورة) من لقاح «مودرنا» هبة من الدانمارك. حملت الهبة تاريخَي صلاحية: الأول ينتهي في الثلث الأول من الشهر الجاري والجزء المتبقي مطلع الشهر المقبل. وعلى عكس اللقاحات التي وصلت سابقاً، لا يتوقع أن تصل مستندات جديدة لتمديد صلاحية لقاح «مودرنا»، إذ إن التواريخ الموضوعة على العبوات بحسب المصادر «هي تواريخ الصلاحية الممدّدة»، وهذا يعني أنها إذا لم تصرف، سيكون مصيرها التلف.
بعد شهرين من وصول الهبة، وعلى عتبة الشهر الثالث الذي تنتهي فيه صلاحية جزءٍ وافرٍ من اللقاحات، لم تصرف وزارة الصحة منها جرعة واحدة. ويعزو وزير الصحة فراس الأبيض ذلك إلى «أمور ضرورية، منها إجراء التدريبات اللازمة للعاملين في المراكز على كيفية التعامل مع اللقاح الجديد، والتغييرات التي يفترض إجراؤها على المنصة».
لهذا السبب، اتخذت الوزارة ــــ متأخرة ــــ قراراً بتحويل الجزء الأكبر من مراكز «فايزر» (نحو 70 مركزاً) إلى مراكز لتلقي لقاحات «مودرنا»، على أن يصبح هذا الأخير اللقاح الوحيد لمن هم فوق الثامنة عشرة، فيما يحصر «فايزر» بمن هم دون ذلك. غير أن القرار واجه «مقاومة» من بعض المراكز لأسباب عدة، منها توقف عملية التلقيح في بعض المناطق. وفي هذا السياق، تشير مصادر في وزارة الصحة إلى «استرجاع كميات مهولة من لقاحات فايزر منذ شهر تقريباً تفوق الـ 20 ألف جرعة أرسلتها المراكز على دفعات بعدما انتهت صلاحيتها»، متوقعة أن يرتفع العدد أكثر. إذ إن المركز الذي كان «يلقّح ألفاً أسبوعياً، باتت حصته اليوم 20 فقط». والأسوأ أن هذه الكميات «ستذهب إلى التلف».
أما في ثاني الأسباب، فهو أن «التدريب الذي تلقاه العاملون في المراكز على لقاح مودرنا لم يكن كافياً كما يتبيّن من المراجعات التي تتلقاها الوزارة من بعض المراكز التي تشكو فيها من عدم تلقي العاملين فيها التدريب اللازم». وثالث الأسباب، والأهم، هو أن «مودرنا» يختلف عن لقاح «فايزر» و«أسترازينيكا» بأن الكمية المسحوبة من قارورة اللقاح في الجرعة الأولى تختلف كلياً عن الكمية المفترضة في الجرعة الثانية، وهو ما يشكّل إرباكاً لدى العاملين، وخصوصاً أنه لم يوزع على المراكز الـ syringe الخاص بذلك اللقاح، ما يعني أن هامش الخطأ وارد هنا. ويضاف إلى تلك الأسباب، ما يتعلق بـ«الأمور اللوجستية التي تخص تغيير المواعيد من فايزر إلى مودرنا». أما ما لم تلتفت إليه الوزارة فهو أنها «لا تستطيع أن تفرض على الناس اللقاحات التي تريدها».
والسؤال هنا: ماذا إذا لم تصرف تلك اللقاحات ضمن «عمر» الصلاحية المتبقي لها؟ لا يحتمل الجواب تعدد الخيارات. فبحسب الوزير الأبيض، «عندما نصل إلى التاريخ المحدد، ما بقى رح نستعملهم»، وهذا يعني حكماً أنها ذاهبة نحو التلف. وإذا كان الوزير يبدي بعض التفاؤل لناحية أنها لا تنتهي كلها في وقتٍ واحد، يتحفّظ آخرون معتبرين أن «ما سيتلف أكبر مما سيؤخذ»، وأن آلاف اللقاحات ستتلف، إلى جانب آلاف أخرى «مخزنة اليوم تمهيداً للتلف». وينسحب هذا الأمر على كل ما نتلقاه من هبات «بعمر قصير»، وهو اعتراف ضمني بأن ما يأتي من هباتٍ لا وظيفة فعلية لها سوى أن «الدولة الواهبة تعطينا ما تريد أن ترميه»، على ما تقول مصادر متابعة لعملية التلقيح. مع ذلك، لا ترفض الوزارة الهبات مطلقاً على قاعدة أن «لا يموت الذئب ولا يفنى القطيع». ويؤكد الأبيض أن الوزارة، أخيراً، رفضت هبات ذات تواريخ صلاحية قريبة، منها هبتان للقاحَي «أسترازينيكا» و«فايزر»، فيما قبلت هبة ثالثة من اللقاحات للأطفال.
أما الأسوأ من فكرة «المكبّ» الذي باتت عليه البلاد بالنسبة إلى عددٍ من الدول الواهبة للقاحات، فهو أن الوزارة تعمد إلى تخزين ما تنتهي صلاحيته لعدم وجود آلية تسمح بتلفه، وخصوصاً أن العمل على هذا الأمر دونه أكلاف مادية. ولذلك، تستخدم جزءاً من مستودعات تخزين الأدوية ــــ وهي قليلة في الأصل ــــ لتخزين ما هو للتلف من لقاحات وأدوية.