من بين الاستراتيجيات التي اعتمدتها الدول الغربية في حروبها الكثيرة التي خاضتها، والغزوات التي شنّتها، دعمُ «تمرّدٍ» هنا، أو «قوّات مسلّحة» هناك، كانت نتيجته حرباً بالوكالة، إن لم تكن بالمباشر. المقاربة إيّاها قد تعتمدها هذه الدول، وتحديداً الولايات المتحدة، إزاء تعاملها مع الأزمة الأوكرانية، لتتحوّل في نهاية المطاف إلى حرب استنزاف ضدّ القوات الروسية. حتّى إنّ العديد من الخبراء والمراقبين، بمن فيهم وزيرة الخارجية السابقة، مادلين أولبرايت، كانوا قد جادلوا، قبل أن تبدأ روسيا غزوها لأوكرانيا، بأيام قليلة، بأنّ احتلال المزيد من الأراضي الأوكرانية، بما في ذلك كييف، من شأنه أن يؤدّي إلى تمرّد، يعوّلون على أن ينتهي إلى ما انتهت إليه الحرب الروسية في أفغانستان، في ثمانينيات القرن الماضي. إلّا أنّ التطرّق إلى المقياس الأفغاني يحمل في طيّاته أسئلة مهمّة كثيرة للحرب الجديدة في أوكرانيا، وهي: ما مقدار الدعم الذي ستقدّمه الولايات المتحدة و»الناتو»؟ ما مدى استعداد الغرب لتحمُّل الردود الروسية على دعم تمرّد كهذا؟ كيف سيكون شكل التمرّد إذا استولت روسيا على دونباس، وشرق أوكرانيا حتى نهر الدنيبر، بما يشمل كييف أو البلد بأكمله؟ هل يمكن أن يُشعل التمرّد صراعاً أوسع؟ وهل بالإمكان احتواؤه؟ هل الأوكرانيون مستعدّون لدفع الثمن؟
من المبكر الإجابة عن كلّ هذه الأسئلة، ولكن يبدو من الواضح، إلى الآن، أنّ الإدارة الأميركية قد بدأت، بالفعل، اللجوء إلى دعم تمرّد ما في أوكرانيا، الأمر الذي ظهرت أولى إرهاصاته، في تقرير نشره موقع «ياهو» الإخباري، في منتصف كانون الثاني الماضي، أشار فيه إلى أنّ «القوات شبه العسكرية الأوكرانية، المدرّبة من قبل وكالة الاستخبارات المركزية، قد تؤدي دوراً مركزيّاً في حال غزو روسيا». الموقع قال إنّ «وكالة الاستخبارات المركزية تُشرف على برنامج تدريب سرّي مكثّف في الولايات المتحدة لنخبة من قوات العمليات الخاصة الأوكرانية، وأفراد استخبارات آخرين». إلّا أنّ البرنامج السري، الذي تديره القوات شبه العسكرية العاملة في «الفرع البرّي» لوكالة الاستخبارات المركزية، كان قد تمّ إنشاؤه من قبل إدارة الرئيس باراك أوباما، بعد غزو روسيا شبه جزيرة القرم وضمّها، في عام 2014، ثمّ جرى توسيعه في ظلّ إدارة دونالد ترامب، ليأتي جو بايدن ويعمل على تعزيزه.
بكلّ الأحوال، من المؤكّد أنّ أيّ تمرّد سوف يستفيد من جغرافية أوكرانيا، على حدّ تعبير دوغلاس لندن، في مجلّة «فورين أفيرز». فهذا البلد تحدّه أربع دول في «الناتو»: المجر وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا. كذلك، تحدّ بيلاروسيا، وهي حليف لروسيا، بولندا من الغرب، وعضو آخر في «الناتو»، هو ليتوانيا من الشمال. وفي النهاية، «توفّر هذه الحدود الطويلة للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، طريقة دائمة لدعم المقاومة الأوكرانية والتمرّد طويل الأمد، ولإذكاء الاضطرابات في بيلاروسيا، إذا اختارت الولايات المتحدة وحلفاؤها تقديم المساعدة السرية لمعارضة نظام الرئيس ألكسندر لوكاشينكو»، وفقاً للندن.
من وجهة نظر هذا الأخير، يمكن أن يؤدّي اتّساع نطاق الاضطرابات إلى زعزعة استقرار دول أخرى في مدار روسيا، مثل كازاخستان، بل قد يمتد الحال إلى روسيا نفسها. حتّى مولدوفا، الواقعة إلى الجنوب الغربي من أوكرانيا، تعدّ أيضاً لاعباً مثيراً للاهتمام، على حدّ تعبير الكاتب. فعلى الرغم من أنّها محايدة اسمياً (تمت كتابة الحياد في دستورها)، إلّا أنّها تعاونت في الماضي مع الولايات المتحدة و»حلف شمال الأطلسي». كما أنّها تتمتّع بعلاقة مشدودة إلى حدّ ما مع موسكو، بسبب التوترات المستمرة حول جمهورية ترانسنيستريا الانفصالية، وهي شريط ضيق من الأرض على طول الحدود المولدوفية ــــ الأوكرانية. وتدعم موسكو هذا الكيان الانفصالي، الذي تحرسه القوات الروسية باسم «حفظ السلام».

يرى لندن أنّه في حال ظلّت أوكرانيا المستقلّة القابلة للحياة قائمة، سواء كانت محكومة من كييف أو لفيف (أكبر مدينة في الجزء الغربي من البلاد)، يمكن للولايات المتحدة وحلفائها في «الناتو»، أن يساعدوا علناً في الدفاع عنها بالأسلحة والتدريب والمال.
من جهة أخرى، يلفت إلى أنّه يجب أن تصبح هذه المساعدة سرّية، في حال استولت روسيا على الحكومة واحتلّت البلاد بالكامل. «يجب أن يكون الدعم العسكري للعمل ضدّ دولة ذات سيادة ليست الولايات المتحدة في حالة حرب معها، دعماً سرّياً، مثل دعم واشنطن للمجاهدين الأفغان ضدّ الاتحاد السوفيتي في الثمانينيات، ولأكراد العراق قبل غزو عام 2003»، يقول لندن. إلّا أنّ هذا الأخير غاب عن باله أنّ الدعم الأميركي للمجاهدين في أفغانستان، كان يأتي عبر الأراضي الباكستانية المجاوِرة، الأمر الذي يشير إليه بروس ريدل، في تقرير في معهد «بروكينغز». وإذ يلفت إلى أنّ «بولندا ورومانيا هما الأقرب إلى أوكرانيا، وأنّ كلاهما عضو في الناتو، مع نشرٍ للقوات الأميركية في أراضيهما»، يوضح أنّ «الولايات المتحدة لديها التزام صريح بالدفاع عنهما، في المادة الخامسة من معاهدة الناتو، وهو الالتزام الذي لم يكن لدينا تجاه باكستان».
بغضّ النظر عن المقاربتين، يربط المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا، جيمس جيفري، في مقال نشره «معهد ويلسون»، بين الحرب على سوريا، وما يمكن أن تحمله فكرة دعم التمرّد في أوكرانيا، بالنسبة الى روسيا. ويقول: «بالنظر إلى ردّ الفعل الروسي المحتمل على أيّ تمرّد أوكراني، تحتاج واشنطن إلى التفكير في ردّها بمزيد من التفصيل».
يرى الدبلوماسي السابق، أنّ «الشيء الوحيد الذي يمكن تحليله هو الرد الروسي المحتمل، بالنظر إلى مثال مكافحة التمرّد الروسي الذي يضم جميع عناصر القوة في سوريا». ويقول إنه «في حين أن الجهد العسكري الروسي الشامل لم ينجح في القضاء على داعش ، إلا أنه كسر ظهر المعارضة المسلّحة السورية، في حملة مكافحة التمرّد التي استمرت ثلاث سنوات، وقلَب الطاولة على المتمردين المدعومين، من الحكومة الأميركية، من بين جهات أخرى».
وأوضح جيفري أنّ «النهج الروسي تضمّن المرونة السياسية والدبلوماسية الذكية، لكن جوهرها كان الوحشية الشديدة»، مضيفاً إنّ «قوات الأسد نفسها واجهت صعوبة في التعامل مع تمرّد عربي سنّي كبير. ومع ذلك، فإنّ حملة القصف الروسية سرعان ما اكتسبت اليد العليا». وفي أثناء ذلك، لفت جيفري إلى أنّ روسيا استكملت عملها هذا «بمرونة سياسية ساخرة في التعامل مع عناصر المعارضة المهزومة والجهات الأجنبية الراعية».
في المحصّلة، تمّ تنسيق دبلوماسية موسكو عن كثب مع تقدّمها العسكري، حيث سعت إلى إضعاف معنويات الدعم الدولي للمعارضة السورية المسلّحة.
ومن هذا المنطلق، أكّد جيفري أنّه «يمكن لأيّ تمرّد أوكراني أن يتوقع رداً روسياً شرساً وذكياً سياسياً». وقال: «صاغ استراتيجيو وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ما أصبح يُعرف باسم قواعد موسكو، للعمليات السرية خلال الحرب الباردة لاحتواء تطلّعات الإمبراطورية السوفياتية للهيمنة»، ليخلص إلى أنّه «يجب على صانعي السياسة والمسؤولين الحذر من نشر روسيا لقواعدها السورية الناجحة، والتي أثبتت جدواها ضدّ التمرّد في أماكن أخرى، وخصوصاً في أوكرانيا».