موسكو | وصل صبر روسيا الاستراتيجي إلى اللحظة الحاسمة في الأزمة الأوكرانية، لتَرسُم بتدخّلها العسكري في دونباس، مساراً جديداً لن تقف ارتداداته عند حدود جارتها فقط. في خطابه إلى الشعب الروسي، أكد الرئيس فلاديمير بوتين أن الظروف تطلّبت «اتّخاذ إجراءات حاسمة وفورية» بناءً على طلب «جمهورية دونباس الشعبية» المعترَف باستقلالها أخيراً من قِبَل موسكو. وحدّد بوتين هدف العملية بـ«حماية الأشخاص الذين تعرّضوا للتنمّر والإبادة الجماعية من قِبَل نظام كييف لمدّة ثماني سنوات»، مضيفاً أن بلاده ستسعى «لنزع سلاح هذا النظام، وتقديم مسؤوليه إلى العدالة، وكذلك أولئك الذين ارتكبوا جرائم دموية عديدة ضدّ المدنيين بِمَن فيهم مواطنون روس». أدركت موسكو أن المواجهة حتمية مع كييف، خصوصاً مع التيّارات القومية فيها، وهو ما أشار إليه الرئيس الروسي في خطابه بقوله إن «مجمل تطوّرات الأحداث وتحليل المعلومات يُظهر أن المواجهة بين روسيا والقوى القومية في أوكرانيا لا مفرّ منها… إنها مسألة وقت». وأكد بوتين أن «روسيا لن تسمح لأوكرانيا بامتلاك أسلحة نووية»، مضيفاً أن بلاده «لا يمكن أن تشعر بالأمان والتطوّر في ظلّ وجود تهديد مستمرّ صادر من أوكرانيا»، مجدّداً قوله إن «دعم أوكرانيا من قِبَل حلف شمال الأطلسي أمر غير مقبول». ولم ينسَ بوتين الغرب في خطابه، إذ وجّه إلى قادته رسالة لهم أَمِل أن يسمعوها جيّداً، تؤكّد أن «روسيا ستردّ بشكل فوري على أيّ طرف تُسوّل له نفسه التدخّل في الأحداث الجارية»، محذّراً من أن «ردّنا سيكون فورياً، وسوف يؤدي إلى نتائج لم تواجهوها أبداً في تاريخكم». كذلك كان بوتين واضحاً بتأكيده أن روسيا جاهزة لكلّ السيناريوات المتوقّعة. وفي الاتّجاه نفسه، أعلن الكرملين، في بيان، أن «هدف العملية العسكرية الروسية هو منع عسكرة أوكرانيا، لأن هذا يشكّل تهديداً لشعبنا»، مؤكداً في الوقت نفسه أن موسكو «مستعدّة للتفاوض مع أوكرانيا بشأن حيادها، ورفض نشر أسلحة للناتو على أراضيها».
بالنسبة إلى موسكو، فإن العملية العسكرية كانت خياراً ضرورياً في ظلّ التصعيد العسكري الأوكراني ضدّ دونباس، وخصوصاً في الأسبوع الأخير، حيث فشلت الجهود الديبلوماسية الغربية في منع كييف من الذهاب نحو الحلّ العسكري، إضافة إلى مواصلة الغرب استفزاز موسكو عبر تقديم دعم عسكري لأوكرانيا، وحشد مزيد من القوات والأسلحة الأميركية في أوروبا الشرقية. وتُجمع تحليلات الخبراء الروس على أنه في النهاية، ستضطرّ كييف لوقف إطلاق النار والجلوس إلى طاولة المفاوضات. ولم تكتفِ روسيا بالدخول عسكرياً إلى دونباس، بل فاجأت الجميع بضربة جوّية خاطفة وسريعة، استهدفت ضرب قدرات الجيش الأوكراني «الموالي للناتو». وفي هذا السياق، أوضح الكرملين أن «الرئيس بوتين سيقرّر مدّة العمليات العسكرية في أوكرانيا وفقاً لتطوّرها وأهدافها»، فيما أعلنت وزارة الدفاع الروسية تعطيل البنية التحتية للقواعد الجوية الأوكرانية وإسكات دفاعاتها، مضيفة أنه بحسب معلومات استخبارية، غادرت وحدات من الجيش الأوكراني مواقعها بكثافة وألقت أسلحتها. من جهته، أكد الخبير العسكري، دميتري بولتينكوف، في تصريح إلى صحيفة «إيزفستيا»، أن الضربة الجوّية الروسية «عطّلت القدرات الجوّية الأوكرانية»، مضيفاً أنها «تشبه إلى حدّ كبير ما حدث في الخليج العربي عام 1991، حيث جرى تدمير مرافق البنية التحتية العسكرية، قبل بدء العملية البرّية». وجزم بولتينكوف أنه يمكن «الآن القول بثقة إلى حدّ ما، إن أوكرانيا لم يَعُد لديها أسطول جوّي يمكنه أن يلحق أضراراً بالطائرات أو السفن الروسية»، متابعاً أن «الجيش الأوكراني لم يتبقّ لديه الآن سوى القوات البرّية، وهذا الخيار من الصعب جدّاً أن تمضي به كييف في ظلّ الفروقات الهائلة مع الجيش الروسي»، كما أن «مواجهة جيش منظّم تختلف كلّياً عن مواجهة جيش محترف».

هو «خيار الضرورة» إذاً وفقاً للرئيس الروسي؛ فالوقائع أثبتت لموسكو أن الغرب لن يلبّي طلباتها الأمنية، كما لن يحترم الاتفاقات المبرمة معها، إضافة إلى أنه واصل في الفترة الماضية التحريض على روسيا واتّهامها بأنها «تهديد حقيقي لأمن أوروبا». ومن هنا، فإن الهجوم الذي بدأته فجر أمس، بالنسبة إليها، أوسع بكثير من مجرّد عمل عسكري لـ«حماية سكّان دونباس وإجبار أوكرانيا على سلوك طريق السلام»، إذ إنها تستهدف أيضاً إرغام الغرب على تفهّم مطالبها والعمل على تحقيقها. وهكذا، تكون روسيا قد أظهرت استعدادها لتوجيه ضربات عسكرية في مواجهة التهديدات القائمة (كان الكرملين وعد بإجابات عسكرية تقنية في حالة فشل المفاوضات مع واشنطن)، ووضعت الولايات المتحدة وحلف «الناتو» أمام خيارات ستكون لها تبعاتها الصعبة على مصالحها. ولا تخفي موسكو أنها توقّعت ردود الفعل الغربية على عمليتها، والتي تنحصر في إطار التنديد والتهديد بفرض عقوبات، فيما الأكيد أن «الدول التي حرّضت أوكرانيا على روسيا لن تقاتل لأجلها، فالحدّ الأقصى للصراع الذي تسمح به الولايات المتحدة في دونباس هو الحرب حتى آخر أوكراني ليس أكثر»، بحسب المدير العام لـ«مجلس الشؤون الدولية» الروسي، أندريه كورتونوف.

أيّ سيناريوات مستقبلاً؟
بالنسبة للخيار العسكري، لا يَظهر أن الولايات المتحدة و«حلف شمال الأطلسي» سيُقدمان على تفعيله. إذ إن واشنطن أعلنت منذ زمن طويل، على لسان الرئيس جو بايدن، تخلّيها عن خيار إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا منعاً لوقوع صدام مع الجيش الروسي، لِما قد يدفع إليه هذا السيناريو من إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة. أمّا الخيار الثاني، فيتمثّل في فرض عقوبات بدلاً من إرسال قوات، وهو ما بدأ الغرب تطبيقه منذ إعلان بوتين الاعتراف باستقلال «جمهوريتَي» دونيتسك ولوغانسك، بهدف «سحق» الاقتصاد الروسي. ومن المرجّح، أيضاً، أن يعمد الكونغرس قريباً إلى فرض حزمة من العقوبات ضدّ النظام المالي الروسي والواردات التكنولوجية، إضافة إلى فصل روسيا عن نظام «SWIFT»، وهو ما سيعود بالضرر على البنوك الروسية، كما سيفقد عدداً من الشركات فرص التعاون الدولي والتنمية، فضلاً عن حظر خطّ الأنابيب «نورد ستريم 2» نهائياً. لكن بوتين كان واضحاً بتأكيده أن بلاده مستعدّة للعقوبات التي أصبحت أداة الغرب الوحيدة لمواجهة بلاده. وبحسب الخبراء، ستكون للعقوبات تبعات كبيرة على الاقتصاد الروسي، لكنّها ستترك آثارها أيضاً على الغرب، فضلاً عن أنها ستدفع روسيا إلى أحضان الصين، الأمر الذي يمثّل خطراً كبيراً على خطط واشنطن لمواجهة بكين. وأثبتت الأسواق الروسية، أمس، قدرة على استيعاب صدمة الأسواق، فيما سَجّل الروبل رقماً قياسياً وصل إلى 100 روبل مقابل الدولار في ساعات الصباح الأولى للعملية، ليعود ويتراجع إلى 86.
أمّا الخيار الأخير، فهو الجنوح إلى التهدئة، واعتبار العملية الروسية درساً مستفاداً، والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع روسيا لبحث نظام أمني جديد، خصوصاً أن التصعيد يضع واشنطن أمام أزمة خطيرة تتمثّل في «تدمير القواعد العالمية القائمة على الإرادة والهيمنة الأميركية». وفي هذا الإطار، يلفت الخبراء الروس إلى أن «الولايات المتحدة أمام معضلة الخطوات التي يمكنها اتّخاذها ردّاً على موسكو»، فإذا «سمحت لروسيا بتغيير الوضع الراهن على هذا النحو من دون عقاب، فأين الضمانة بأن الدول الأخرى في الغد لن تتبع مسار موسكو»، وفي هذا إشارة تحديداً إلى الصين التي تريد استعادة تايوان، ولن تتردّد في الإقدام على ذلك إذا ما لمست أن العزم الأميركي قد تصدّع، وحينها ستكون مختلفة تماماً في شرق آسيا.