الحريري يتسوّل الأميركيّين: أنا NGO أيضاً!
تتزاحم قوى وأحزاب لبنانية على الاستزلام لدى الإدارة الأميركية ولفت انتباهها، ضمن محاولاتها التأثير على توجّهات سياسة واشنطن الرسمية في لبنان. من بين هؤلاء بهاء رفيق الحريري الذي يطمح إلى وراثة التركة السياسية لوالده وشقيقه، بمباركة أميركية، وعبر شركات علاقات عامة، لا عبر تلمّس معاناة أنصار تيار المستقبل في بيروت وطرابلس وعكار وصيدا وغيرها
في 3 أيلول 2021، وثّقت C|T Group الأسترالية، عبر فرعها الأميركي C|T Solutions and Private Advisory Ltd (جماعة ضغط)، تعاقدها في وزارة العدل الأميركية (بموجب قانون تسجيل العملاء الأجانب FARA) مع بهاء الحريري، للقيام بنشاط معين بالنيابة عنه في واشنطن، وجاء في نص التعاقد أنّ جماعة الضغط هذه ستتواصل، لمصلحة بهاء الحريري، مع «أعضاء ولجان الكونغرس الأميركي الذين يتمتّعون بسلطة تشريعية ورقابية على الشرق الأوسط عموماً، وبشكل خاص ما يتعلّق بلبنان». عملية التواصل ليست محصورة بالمؤسسات الرسمية الأميركية، بل تنسحب على «أصحاب المصلحة من المنظمات غير الحكومية المهتمّة بالشرق الأوسط، مثل مراكز الفكر والأوساط الأكاديمية والمؤسّسات المتعدّدة الأطراف والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام».
ورد في نص العقد أنّ مدّة التعاقد عام واحد قابل للتجديد، يبدأ من آب 2021 حتى آب 2022، ويدفع بموجبه الحريري 50 ألف دولار أميركي شهرياً لـ C|T Group. وسلّم الفرع الأميركي لشركة العلاقات العامة وزارة العدل الأميركية ثلاثة إخطارات بأسماء ثلاثة أشخاص سيتولون نشاط الضغط في واشنطن تنفيذاً للعقد، وهم: لارا علامة وبرايس فلويد ولورانس غروسمان.
حتى الآن، لم يصدر التقرير نصف السنوي المفصَّل حول نشاط C|T Solutions and Private Advisory Ltd لمصلحة المتعاقدين معها. لكن كان متاحاً الحصول على تقارير محدَّدة سُلِّمَت إلى وزارة العدل الأميركية بالنيابة عن بهاء الحريري. في 29 أيلول 2021، وزّعت جماعة الضغط على أعضاء الكونغرس ووزارات ووكالات فيدرالية ومراكز فكر ووسائل إعلام تقريراً من صفحة واحدة، هو عبارة عن سيرة ذاتية تعريفية ببهاء الحريري. في اليوم التالي، وزّعتC|T Solutions and Private Advisory Ltd تقريرَين، الأول من 3 صفحات، هو عبارة عن دليل تعريفي بجمعية «سوا للبنان» التابعة للحريري، تضمّن شرحاً عن أسباب تأسيس الجمعية وأهدافها ونشاطاتها على الأراضي اللبنانية وما تقدّمه من مساعدات في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة. والثاني من 22 صفحة، تضمّن رؤية الجمعية للإصلاح الاقتصادي والقضائي والدستوري والصحي والعسكري واستراتيجية مكافحة الفساد.
في 11 تشرين الأول، قبل يومين من وصولها إلى بيروت، تسلّمت وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند رسالة (وثيقة رقم 1) من بهاء الحريري، عبر جماعة الضغط، ملأها بعبارات «وجدانية»، وطرح فيها مجموعة أفكار دعاها إلى تبنّيها، مصوّباً على حكومة الرئيس نجيب ميقاتي ومحرّضاً على عدم مساعدتها. في الوثيقة، يلفت الحريري نولاند إلى أنّ السياسيين اللبنانيين معظمهم «من الذكور»، وإلى أنّ «الطبقة السياسية وأعوانها يمارسون الأعمال التجارية بالطريقة نفسها، لذلك فإنّ أيّ مساعدة ستكون بمثابة مكافأة مَنْ هم في السلطة على فسادهم المستمر منذ سنوات، وهؤلاء سيكونون المستفيدين حصراً». وشدّد الحريري في رسالته على أنّ «الإصلاح من داخل النظام صعب بشكل متزايد»، من دون أن ينسى تذكير الأميركيين بما يعكفون على ترديده دائماً بأنّ «الدعم المباشر لميزانية الحكومة اللبنانية يمكن أن ينتهي في أيدي حزب الله»، وأنّ المساعدات المباشرة للحكومة ستُستَخدَم «كآلية لتأمين الدعم للنظام الحاكم في الانتخابات البرلمانية المقبلة». بالنسبة إلى بهاء، ينبغي أن تزيد واشنطن من استثمارها في المنظّمات غير الحكومية، التي تحدّث عن إنجازاتها في تقديم المساعدات للناس بدلاً من الدولة، بما يمكن فهمه كتقديم ورقة اعتماد للأميركيين لتبنّيه كـ NGO، وليس كنجل رفيق الحريري.
في اليوم نفسه الذي أرسل فيه الحريري رسالته العاطفية إلى نولاند، وزّعت C|T Solutions and Private Advisory Ltd بالنيابة عنه ورقة توصيات من صفحتَين (وثيقة رقم 2) على النخبة السياسية والفكرية والإعلامية الأميركية تتضمّن رؤيته للحل في لبنان، وتوصياته لتعامل الإدارة الأميركية والكونغرس مع الطبقة السياسية اللبنانية، ولا سيما حزب الله. الورقة قدّمت أفكاراً للكونغرس، فأوصت بفرض مزيد من العقوبات على خلفية الفساد بموجب ما يُسمّى «قانون ماغنتسكي العالمي»، وفرض عقوبات على مزيد من الشخصيات السياسية على خلفية علاقاتها بحزب الله. ومن التوصيات التي نصّت عليها الورقة للمشرّعين الأميركيين، «توجيه صناديق الدعم الاقتصادي الأميركية من قبل الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لتكون عبر المنظّمات غير الحكومية». ولم ينسَ راعي قطع الطرقات عبر منتدياته خلال العامين الماضيين أن يوصي بـ «الاستمرار في دعم الجيش اللبناني كمنارة للاستقرار، والتأكّد من أنّ أيّ مساعدة أميركية للجيش اللبناني ستكون مشروطة بحماية المتظاهرين».
في 2 كانون الأول 2021، تسلّمت وزارة العدل الأميركية نسخة عن استطلاع (وثيقة رقم 3) لآراء اللبنانيين حول الانتخابات المقبلة والأحزاب اللبنانية أجرته مؤسسة CT Group لمصلحة الحريري صيف 2021، وأُرسل مطلع كانون الأول 2021 إلى أعضاء الكونغرس وجهات رسمية وبحثية أميركية. ما يمكن استنتاجه من الأرقام والنسب الواردة في الاستطلاع، هو أنّ الحريري حاول أن يخدم الآراء التي تروّج لفكرة أنّ إجراء الانتخابات حالياً سيؤمّن لحزب الله فرصة لإعادة تأكيد شرعيته وحضوره في مؤسسات الدولة اللبنانية ضمن تركيبة الطائف، للاستنتاج بأنّ إضعاف الحزب يمكن تحقيقه عبر إعادة هيكلة النظام السياسي في لبنان، وقد وردت عبارة إعادة هيكلة النظام السياسي أكثر من مرّة في ورقة التوصيات التي قدّمها.
بالنظر إلى طبيعة الشركة التي تعاقد معها الحريري، من الواضح أنّه يراهن على «نجاعة» الأسلوب الغربي في إدارة الحملات الانتخابية وحملات تلميع الصورة، ويرى أنّه كفيل بتغيير الانطباعات والتصوّرات عن شخصه ومشروعه الذي يتصوّره للبنان. لكنّ الأهم أنّ الحريري يدرك بأنّ لديه مشكلة إقناع، في الدرجة الأولى، في واشنطن، لذلك استعان بشركة علاقات عامة. كما أنّ من الواضح أنّ لديه مشكلة إقناع أخرى مع الخليجيين، إذ لو أنه نال تبنّياً سعودياً مثلاً، لما احتاج إلى تعاقدات من هذا القبيل للترويج لنفسه لدى الأميركيين. لدى بهاء طموح واضح بوراثة أخيه سعد، أو أنه بالحد الأدنى يتطلّع إلى استقطاب أكبر قدر ممكن من القاعدة الشعبية والنخبوية لتيار المستقبل، متسلّحاً بما يمكن لجهود العلاقات العامة لدى الأميركيين أن تؤمّنه له، ليظهر أمام جمهور المستقبل أنّ لديه ما يؤهّله ليكون جديراً بخلافة والده في علاقاته القوية مع الغرب. كما يركّز بهاء الحريري هجومه على حزب الله، وفي كل التقارير المرسَلة إلى الأميركيين يكرّر السردية المعتمَدة من بقايا 14 آذار والسعودية، بأنّ سبب الأزمة في لبنان هو الحزب، وبالتالي فإنه ينضوي ضمن الأطراف اللبنانية الساعية لإقناع واشنطن بالاستمرار في تبنّي سياسة ترامب تجاه لبنان.