تحقيقات - ملفات

رفيق الحريري: التهاب الذكرى والذاكرة!

رضوان السيد -أساس ميديا

هذا يوم رفيق الحريري، الذي ثبت بعد 17 من اغتياله جسدياً، استحالة إلغائه من متن صناعة السياسة في لبنان، ومن حضوره في الذاكرة العربية والدولية.

“أساس” ينشر أمس واليوم مجموعة مقالات ومقابلات في محاولة لسرد بعضٍ سيرته التي نتعلّم منها جميعاً.

 

في الذكرى السابعة عشرة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري، يبقى الأمر كأنّه ما غاب إلّا يوماً أو بعض يوم.

تختلف أسباب تذكُّر الحريري اختلافاً شديداً، كأنّما لكلّ فردٍ في لبنان والعالم العربي حريريّه الخاصّ الذي يتذكّره دون سواه.

وقد قمتُ ليس الآن وإنّما في أعقاب إسقاط حكومة سعد الحريري الأولى عام 2011 بتجربةٍ طريفة. انصرفت خلال شهر لسؤال عيّنة عشوائيّة مكوّنة من ثلاثين شخصاً لبنانياً من مختلف الطوائف والأعمار سؤالاً واحداً: هل تتذكّر رفيق الحريري؟ ولماذا؟ وما هي أهمّ الأعمال التي قام بها في نظرك؟

سيدة واحدة فقط قالت إنّها لا تتذكّره، أمّا الآخرون والأخريات فتذكّروه جميعاً وتحدّثوا باستفاضةٍ عنه. وكان هناك مَن قال إنّ أهمّ أعماله المشاركة في صياغة اتفاق الطائف أو إعادة إعمار بيروت أو إعادة العرب والعالم إلى بيروت ولبنان.  بيد أنّ حوالى العشرين قالوا: أهمّ أعماله إنشاء مؤسسة الحريري للمنح التعليمية التي دخلت كلّ بيت. وحتى قرابة العام 2000 كانت قد خرّجت أربعين ألفاً في مختلف التخصّصات وفي كبار جامعات لبنان والعالم.

في ميراث المسلمين عبارةٌ مأثورةٌ تُنسب أحياناً إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهي: “ألسنة الخلْق أقلام الحقّ”.

أما الحقُّ الذي لا مردَّ له فهو أنّ رفيق الحريري ما يزال ملء السمع والبصر، نعم، البصر أيضاً! لأنّ كلّاً منّا ما تزال لديه شواهد، وشواهد بصريّة أيضاً، على رؤى الرجل وأعماله، لا يخفُّ وقْعها ولا آثارها على مضيّ الأعوام والأحداث.

الذي يحضر في عمل رجلٍ كرفيق الحريري مارس العمل العامّ، أنّه كان رجلَ دولةٍ من طرازٍ رفيع حتى بمقاييس العالم الأول، كما يُقال. يحضر عمله كرجل دولةٍ في الظروف التي ظهر فيها في لبنان في ذروة اشتعال النزاع الداخلي والإقليمي والدولي.

 

الحقبة الفلسطينية – السورية

تضاءل التأثير الفلسطيني بخروج منظمة التحرير من لبنان عام 1982، وسيطرة الوجود والتأثير السوريَّيْن، مع استمرار وتصاعد النزاع الداخلي، وأحياناً بتأثير النظام السوري، وأحياناً أخرى بتأثير المنافسين أو المتنافسين للكسْب من الحرب.  تدخّل رفيق الحريري في المشهد بدعمٍ من المملكة العربية السعودية يقوده همّان: إنهاء النزاع الداخلي، وإعادة الإعمار.

في المجال الأوّل بذل جهوداً جبّارةً لإقناع السوريين بأنّ من مصلحتهم أن ينتهي النزاع. وخلال ذلك (1982-1988) تعرّف عن قُرب على كلّ أطراف النزاع الداخليّين، وكلّ ذلك انطلاقاً من دمشق. وقد عرفْتُ فيما بعد (لأنّني ما عرفته حقّاً إلاّ بعد العام 1988) أنّه، وبسبب استماتته في محاولة إنهاء النزاع، دخل في اتفاق العام 1985 بدمشق بين أطراف الحرب، والذي كان يعني الانتصار لوجهة النظر السورية. يومها وعندما فشلت المحاولة بسبب رفض المسيحيّين لها واللقاء الإسلامي برعاية المفتي الشهيد حسن خالد، بدأ السوريون، كما قال لاحقاً، يفكّرون في “الحلّ المتوازن” أو صيغة لا غالب ولا مغلوب، بحسب العبارة التي شاعت بعد نزاع العام 1958.

منذ ذلك الحين بدأت محاولات صياغة الدستور الجديد والتي استغرقت أكثر من ثلاث سنوات. ويومها ارتأى سعود الفيصل وزير خارجية المملكة العربية السعودية أنّ الظروف تهيّأت، فجرى تجاوز الصيغ التي اقترحتها اللجان العربية، وبدفعٍ من مؤتمر القمّة العربية عام 1988 دعت السعودية أعضاء مجلس  النواب اللبناني الممدَّد له مرّات إلى مدينة الطائف لمناقشة الصيغة الدستورية التي عمل الحريري أوراقها المختلفة لسنوات.

لماذا أعود إلى هذه التفاصيل التي اهتممتُ بجمعها بعد العام 1992 عندما صار الحريري رئيساً للوزارة؟

لأنّ هذه السنوات الكثيفة كانت التجربة الأولى للحريري في العمل السياسي فيما بين السعودية وسورية والأطراف الداخلية اللبنانية.  وقد قال مرّةً في مجلس إنّ تلك السنوات المضنية علّمتْه الكثير، وأوّل ما تعلّم منها أنّ العمل السياسيَّ والعامّ يتطلّب أمرين:  الرؤية والاحتراف. وقد كانت رؤيته أنّه لا بدّ من إنقاذ لبنان وعيشه المشترك. أمّا الاحتراف فقد قصد به ما يشبه التفرّغ لهذه المهمّة الجليلة.

في البداية كان ينزعج عندما يُقال له إنّه يعمل بعقليّة رجل الأعمال. ثمّ صار يبتسم لهذه “التهمة” ويقول: إذا كان المقصود من ذلك أنّ رجل الأعمال لا يملُّ من محاولات إجراء صفقة تبدو له مربحة فلا بأس، وهل هناك صفقة أربح من إحلال السلم في البلاد؟ إنّما هل يستقرّ السلم بدون عدالةٍ أو توازُن؟ وهمُّ التوازن، وهو قرين العدالة، هو الذي دفع الرجل إلى اعتبار الاحتراف الركن الثاني في عمله السياسي.

 

الإعمار منذ 1982

كان الحريري يفكّر ليل نهار في إعادة الإعمار حتى منذ العام 1982. وكانت أعلى أمنياته أن يصبح رئيساً لبلديّة بيروت أو رئيساً لمجلس الإنماء والإعمار. ثمّ تبيّن له ومن خلال تجربة السنوات الأولى أنّ الإعمار يعطّله الإداريون والسياسيون بسبب الخوف على مصالحهم وامتيازاتهم، لأنّه ليس عملاً تقنيّاً يقوم به المهندسون والمتموّلون، بل هو عمل سياسي من الطراز الأوّل. والإعمار هنا وفي حالة لبنان ليس مجموعة من المنشآت التي تتولّاها الشركات، بل هو إعمارٌ شاملٌ للدولة وإعادة تركيب للمجتمع وتعويده من جديد على العيش المشترك.

لذلك، وبعد مؤسسة الحريري التعليمية الجبّارة، صار ديدنه أن يصبح رئيساً للحكومة التي تتولّى السلطة التنفيذية، والتي ازدادت قوةً بعد اتفاق الطائف، وهذا هو معنى الاحتراف الذي قصده إلى جانب الرؤية.

قال رفيق الحريري مراراً خلال التسعينيّات من القرن الماضي إنّ رؤيته الوطنية ما صارت مشروعاً إلا بعدما تولّى رئاسة الحكومة. وبدأ بإنفاذ ذلك “المشروع” الذي تكوّنت معالمه أثناء بروز الصعوبات وتخطّيها خلال السنوات الخمس الأولى (1992-1997). ما خاف من بروز إميل لحود الذي كان يقف ضدّ المشروع، لأنّ العودة إلى الوراء ما عادت ممكنة. ووقتها قال إنّ اللبنانيين يختلفون كثيراً على الماضي، لكنّهم لا يختلفون على المستقبل، وما عاد للبلاد مستقبلٌ إلاّ مشروع رفيق الحريري. لكنّه كان يتألّم كثيراً لملاحقة مجموعة من الرجال الذين عاونوه في إعادة البناء العمراني والسياسي، وكأنّما هم يُعاقَبون على الإنجاز وليس على الفشل!

فماذا بقي من إنجازَيْه: الإسهام أو المشاركة في إنهاء النزاع، وإعادة بناء البلاد عمرانياً واقتصادياً وسياسياً؟

ماذا بقي لنا منه؟

بقي الحريري ملء السمع والبصر بسبب الإنجازات الكبيرة التي حقٌّقها والتي ذكرها اللبنانيون الذين استفتيتُهم وذكرت ذلك في مطلع هذه الكلمة. لكنّه بقي ملء السمع والبصر أيضاً لإحساس معظم اللبنانيين والعرب أنّه ما كان يستحقّ هذه الميتة التي اختارها له المجرمون المعروفون.

تقول الفيلسوفة السياسية الشهيرة “حنّة أرندت” في معرض التعليق على محاكمة أَيخمان، الضابط النازي في إسرائيل في مطلع الستينيّات، بسبب جرائمه ضدّ اليهود في الحرب العالمية الثانية: “بقدر ما تكون الجريمة كبيرة تكون أيضاً تافهة، لأنّ الشرّ تافه”.

كان أيخمان يعتذر عن جرائمه بأنّه كان عبداً مأموراً. أمّا قتلة الحريري فقد اعتبروا عملهم الإجرامي إنجازاً كبيراً، ولماذا؟ هم يتحدّثون عن مؤامرةٍ كبرى كان الحريري أحد رؤوسها.

لا يعرف له معظم اللبنانيين والعرب (وبعد سبعة عشر عاماً أو سبعين) غير إعادة إعمار لبنان، والسعي الحثيث إلى أن يكون منارةً في حاضر العرب ومستقبلهم.

هكذا كان أَيخمان تافهاً بالزعم أنّه مأمور (من أجل الأمر تقتل آلاف الناس؟!)، فيما كان قتلة الحريري وما يزالون تافهين لأنّهم أسوأ منه إذ اعتبروا تخريب لبنان بقتله عملاً محموداً أو اختياراً مطلوباً.

الذين اغتالوا الحريري ماذا قدّموا للبنان الكيان ولبنان العمران والإنسان؟ هؤلاء ما يزالون يحكمون في لبنان وسورية، وكلا البلدين في أحوالٍ تستعصي على الوصف والتشخيص. الشرّ تافهٌ بالفعل وسيبقى كذلك، وإن لم يخفّف هذا الإدراك من المرارة والفظاعة التي تخالج كلّ البشر الأسوياء لهول الجريمة.

إنّما من جهةٍ أُخرى، هل يُؤخَذ على الحريري شدّة إيمانه بالمشروع الذي كان بصدد إنفاذه؟ وهل لو كان سياسياً عاديّاً لكان نجا كما نجا معظم الآخرين الذين يمارسون العمل السياسي في لبنان حتى اليوم؟

 

أبطال الحرب… والسلم

في كلّ الحروب الداخلية، ينتهي أمر “أبطال الحرب” بنهايتها. أمّا في لبنان فإنّ الذين حاول الحريري إنفاذ مشروعه معهم هم أبطال الحرب أنفسهم. وهؤلاء في أحسن الأحوال يحاولون أن يكسبوا في السلم كما كانوا يكسبون في الحرب. ولنتأمّل كيف تحيّز معظمهم لإميل لحود مع معرفتهم أنّ السوريين المحتلّين هم الذين أتوا به. ثمّ لنتأمّلْ مصائر الراديكاليّتيْن الشيعية والمسيحية، اللتين سيطر عليهما الجذل أيّام لحود، ثمّ تحالفتا في كنيسة مار مخايل عام 2006، وما تزالان في السلطة منذ ذلك الحين. إنّ السياسيَّ الراديكاليّ لا يختلف عن المسلّح الراديكالي. وهكذا فإنّ بعض “أبطال الحروب” في لبنان وسورية هم الذين اغتالوا رفيق الحريري لأنّهم لا يريدون الاستقرار ولا النهوض. وقد تبيّن من بعد أنّهم لا يريدون أيضاً دولة لبنان العمران والإنسان.

وإلى هذا وذاك فهم مثل أيخمان عبيدٌ مأمورون في جيش فلان وعلاّن.

 

فهم سبب القتل

هل ينفع بيان الأسباب في فهم ظاهرة الحريري وعلل قتله؟

قال لي سياسي عربي: “الحريري شخصيّة فريدة، إنّما الأهمّ أنّ مشروعه الذي أثّر في لبنان وسورية وإيران كان مستحيلاً لخطره وخطورته على المهيمنين وعلى الفاشلين”.

لقد انصرف بعضنا إلى المقارنة بين ما أنجزه رفيق الحريري، وما لم ينجزه الذين أتوا بعده. وما أدرك كثيرون منّا أنّ المسألة ليست فقط في عظمة هذه الشخصيّة وعاديّة هذا أو ذاك. بل إنّ جزءاً كبيراً ممّا نزل بنا وبلبنان بعد الحريري يخضع لنفس الأسباب التي قتلت رفيق الحريري.

نعم، مقتل الرئيس الحريري كان إيذاناً بالعمل على تغيير وجه المنطقة العربي لمصلحة “حلف الأقلّيّات”. فما كان ممكناً أن ينجح مشروعٌ بنائيٌّ مهما صغُر. وإلّا فلماذا قُتل الحريري؟!

على أيّ حال، نحن بشرٌ وقد أذهلنا اختفاء تلك الشخصيّة من حياتنا الوطنية والإنسانية فصِرنا نكبّر ما صغُر من أخطاء أخلافه، ثمّ إنّهم أوّلاً وآخِراً بشرٌ عاديون وإلاّ فلماذا بقوا على قيد الحياة؟

وفي النهاية فإنّ الأعمار بيد الله.

لقد ذكرتُ في هذه المطالعة بعض ما يمكن قوله عن الحريري الإنسان ورجل الدولة، وعن تفاهة الشرّ والأشرار الذين كانت عندهم دوافع الاغتيال. لكنّ مرارتنا لن تنقضي ولا قهرنا على هذا الرجل مهما تطاولت الأيام والأعوام.

المحبّة لا تُعطى بالمصادفة، بل هي هبةٌ إلهيةٌ يسبغُها المولى عزّ وجلّ مباشرةً وبواسطة عباده على أعزّائه. نحن محبّون مقهورون لموت الحبيب كأنّما هو مات بالأمس القريب. رحمك الله أيّها العزيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى