التفاوض المقبل: جعجع ممثّل الخليج والسيّد ممثّل إيران
التفاوض المقبل: جعجع ممثّل الخليج والسيّد ممثّل إيران
أصبح هناك تدوير جديد للمراكز الإقليمية تظهر نتائجه في لبنان.
تمّ تفويض السيّد حسن نصرالله مباشرة من المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي بإدارة مجموع الوكلاء المناصرين لإيران في صنعاء وبغداد ودمشق وغزّة.
تمّ ذلك وتأكّد بعد رحيل قاسم سليماني. وتمّ تفويض الدكتور سمير جعجع كي يكون الممثّل الصريح الواضح والمدافع السياسي عن مصالح دول الخليج العربي بعد قرار الرئيس سعد الحريري بالتوقّف عن أيّ دور سياسي.
من هنا يمكن فهم أنّ ما يقوله نصر الله عن اليمن والسعودية والإمارات هو التعبير الصريح الواضح عن حقيقة الموقف الإيراني. ومن هنا أيضاً يمكن فهم تصريحات الدكتور سمير جعجع الأخيرة عن اختصار تداول الورقة الكويتية، التي حملها وزير الخارجية الكويتي إلى القيادة اللبنانية، داخل الرئاسات الثلاث وعدم عرضها على مجلس الوزراء مجتمعاً، بأنّها “رسالة استياء من دول مجلس التعاون، وتحديداً من الرياض”.
من الآن فصاعداً مباراة تقاذف المواقف والتصريحات والصراع ستكون بين جعجع ونصرالله، أو بين ثنائية شيعية مدعومة من أنصار النظام الأمنيّ السوري وغطاء من الرئيس ميشال عون من جهة، وسمير جعجع ومزيج من ائتلاف يتمّ تشكيله من المجتمع المدني وبقايا تيار المستقبل وتحالفات مؤقّتة مع الكتائب وبكركي والمطران عودة، وأحياناً دروز وليد جنبلاط من جهة أخرى.
أصبح عنوان مجلس التعاون الخليجي في لبنان الآن هو معراب، وعنوان إيران وسوريا الآن في بيروت هو حارة حريك.
الجديد في هذا الموضوع أنّ نصرالله لم يعد مسؤولاً أمام الإيرانيين عن الملفّ اللبناني وحسب، بل أصبح مفوّضاً الإشراف على صراعات اليمن والعراق وسوريا وغزّة بالتعاون مع قيادة الحرس الثوري الإيراني.
من هنا يمكن تصوّر أنّ ملفّات الرعاية السياسية والتلقين العقائدي والتسليح والتدريب والصيانة والتمويل لهذه القوى يشرف عليها السيد نصر الله بشكل تنفيذي مباشر، ويُعتبر “تقديره ورأيه” هما الكلمة النهائية في هذا الموضوع.
على خلفيّة كلّ ذلك يمكننا القول إنّه إذا تمّ “تلزيم” لبنان لجعجع، والمنطقة العربية لنصر الله، فإنّ الصراع أو التعارض بينهما هو الآتي، طال الزمن أم قصر. الأيام والشهور المقبلة ستكون كاشفة لهذه العلاقة بعد أن يُحسم موضوع الملف النووي.
أزمة لبنان الحالية أكبر من أيّ طائفة ومن أيّ زعيم ومن أيّ حزب، وأكبر من أيّ دولة إقليمية أو حتى قوى دولية.
أزمة لبنان شبيهة بمريض توطّنت فيه الأمراض والفيروسات لسنوات طويلة، وظلّت الفيروسات الخبيثة تنتشر في أعضاء الجسد المريض تباعاً حتى وصلت هذه الأخيرة إلى نقطة الفشل الكامل والتقادم المميت الذي لا شفاء منه.
بعد هذا الإهمال المتعمَّد على مرّ التاريخ، وهذا “النخر والتحطيم وشفط الدم الحيويّ” من دون توقّف، بلغت الحالة حدّاً لا يمكن أن ينجح معه استدعاء أعظم طبيب عالمي، لأنّ الوضع ببساطة أصبح “علاجاً مستحيلاً لحالة ميئوس منها”.
هذا ليس انطباعاً عاطفياً متشائماً أو موقفاً سياسياً سلبياً، لكنّه تحليل رقمي علمي لحالة المريض اللبناني المحتضر.
ماذا تقول الأرقام الدولية المؤكَّدة عن حالة المريض اللبناني؟
إنّها حال مستعصية تكاد تصل إلى حالة “استحالة الحلّ”، ليس بسبب موقف انطباعي مسبق، لكنّه تقدير علمي مستمرّ مصدره مؤشّرات وإحصاءات محزنة وبائسة تتعلّق بحال البلاد والعباد في لبنان.
يلخّص تقرير البنك الدولي حال لبنان بالقول إنّه “انهيار اقتصادي تمّ عن عمد من قبل النخبة السياسية الحاكمة للبلاد”.
وصفت “نيويورك تايمز” و”سي.إن.إن” التدهور الاقتصادي في لبنان بأنّه الأسوأ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بناء على الإحصاءات الدقيقة يعيش الآن أكثر من 70 في المئة من السكان في لبنان تحت خط الفقر. تدلّ الأرقام على أنّ الناتج القومي الإجمالي للبلاد من العام 2019 حتى العام 2021 بلغ 30 مليار دولار، وهو ما جعله الاقتصاد الأسوأ أداءً ضمن 193 دولة.
تشير الإحصاءات الدولية المستقلّة إلى أنّ التضخّم وصل إلى 154 في المئة. وفقدت العملة 90 في المئة من قيمتها، وزادت أسعار السلع الأساسية ما بين 5 إلى 6 أضعاف. أصبحت الخدمات الأساسية، مثل الصحة والتعليم والنقل والكهرباء والطاقة، شبه مستحيلة.
يجعل هذا التوصيف الدقيق الأمر أكبر من أيّ سياسي، سواء كان جعجع أو نصرالله.
يمثّل جعجع جزءاً من الموارنة وليس كلّهم، والموارنة يمثّلون جزءاً من المسيحيين وليس كلّهم.
السيّد نصر الله يمثّل جزءاً من الشيعة وليس كلّهم، والحزب يمثّل جزءاً من الشيعية السياسية وليس كلّها، والشيعية السياسية ليست كلّها عقيدة أو طائفة أو اثني عشرية تتبع ولاية الفقيه.
جعجع لديه كتلة سياسية وقوّة شعبيّة في الشارع المسيحي، والسيّد نصر الله لديه مئة ألف مقاتل، وحوالي 120 ألف صاروخ، ومؤسسات مالية وإنسانية، وكوادر حزبية في أماكن مفصلية في البلد.
آخر خيوط جعجع في باريس وواشنطن والرياض، وآخر خيوط السيّد في طهران ودمشق، وحديثاً في أنقرة.
الأمر المؤكّد، الذي يحاول جعجع والسيّد تجاوزه، هو أنّه يمكن “إدارة اللعبة” من دون حضور “سنّيّ فاعل” في الحياة السياسية.
لا يمكن إقامة صراع أو تحديد تسوية نهائية من دون وجود رضاء سنّيّ صريح وداعم.
تأجيل الانتخابات النيابية تحت أيّ حجّة دستورية أو أيّ فذلكة سياسية يدعمها جبران باسيل، أو العودة مرّة أخرى إلى الدائرة الـ 16(المخصصة للمغتربين والتي تمكنهم من اختيار ستة نواب يمثلونهم حسب القارات التي يقيمون فيها) يُعتبران قفزاً في فراغ أكثر خطورة من الفراغات الحالية.
أيّ محاولة لرتق الثقب الكبير، الذي أدّت إليه حالة تجميد الرئيس الحريري لنشاطه السياسي ونشاط تيار المستقبل، هي مشروع يحتمل الفشل أكثر من النجاح. بلغة السينما الفرنسية، أيّ محاولة لاختراع أو صناعة بديل أو دوبلير للسُنّيّة السياسية في لبنان الآن هي مشروع لن يأتي بأيّ جمهور حقيقي.
ما يزيد التعقيد السياسي للوضع اللبناني، الذي يكاد يعجز بسبب التدخّلات والولاءات الإقليمية والدولية العابرة لمصلحة الدولة الوطنية اللبنانية، هو دخول رجب طيب إردوغان بشكل صريح في اللعبة اللبنانية.
زيارة الرئيس نجيب ميقاتي الناجحة، وشكل الاستقبال الذي حظي به الوفد اللبناني، تُنبئان برغبة أنقرة في لعب دور تركي في السياسة اللبنانية.
لماذا الاهتمام التركي؟
أوّلاً: إيجاد قوّة في لبنان جار سوريا التي تسعى أنقرة لوجودها كمنصة “تفعيل” للوجود العسكري هناك.
ثانياً: دخول الشركات التركيّة على خط استخراج الغاز قبالة الساحلين اللبناني والسوري.
ثالثاً: استكمال الوجود الاستراتيجي التركي في سواحل ليبيا، سوريا، لبنان، غزّة وقبرص التركية.
رابعاً: العودة التاريخية العثمانية إلى الوجود في شمال لبنان، وبالذات في طرابلس، حيث كان الوجود السابق خجولاً مستتراً تحت ستار العمل الثقافي والاجتماعي.
ويُعتقد هنا أنّ علاقة مجموعة بهاء الحريري مع تركيا سياسيّاً سوف تكون أحد عناصر تحفيز الدور التركي المقبل.
إنّ محاولة “تلزيم” هجين سياسي جديد لإدارة صراعات المنطقة هو مشروع مصطنع محكوم عليه سلفاً بالفشل، وكأنّنا في مباراة كرة قدم قرّر فيها المدير الفنّي للفريق المأزوم في المباراة تغيير لاعب أساسي بلاعب قديم بتقدير أنّ الأخير هو القادر على تنفيذ خطة المدرّب بشكل مثالي.
العائق الأساسي أمام تنفيذ هذا التصوّر أنّه يمثّل قراءة مرتبكة لسير المباراة، وفيه عدم فهم لقدرات اللاعبين وأسلوب وخطة الفريق الخصم. إنّها مشكلة خطأ جسيم في التشخيص.
التشخيص السياسي الدقيق لحال التوازنات السياسية للطوائف في لبنان،
على الأقلّ كما أراه، هو على النحو التالي:
1- صراع مسيحي ماروني-ماروني بين عون وباسيل والتيار من ناحية، وسمير جعجع والقوات من ناحية أخرى.
2- صراع مكتوم بين طرفيْ الثنائية الشيعية ما زال تحت السيطرة بسبب استمرار وجود الرئيس نبيه بري.
3- تهميش حالي لأدوار الدروز، والأرثوذكس والأرمن والمجتمع المدني.
4- تحفيز الجماعة الإسلامية المتأثّرين بفكر داعش، والأحباش ، على الاستيلاء على المراكز الشعبيّة التي خلت من حضور سنّيّ سياسيّ بعد تجميد نشاط تيار المستقبل وأنصاره في الشارع اللبناني.
5- صعود قويّ لحزب الله وأنصاره من طهران ومن النظام الأمني السوري يزداد يوميّاً وفق ترمومتر ما يحدث في غرفة المفاوضات النووية في فيينا.
6- وجود تركيبة جديدة يتمّ إعدادها في طرابلس لجعل الشمال وليس بيروت مركز السُنّة، وجعل أنقرة وليس الرياض الداعم الرئيسي للسُنّيّة السياسية، وتفاهم بين نواب طرابلس وبهاء الحريري وليس المستقبل القوّة الفاعلة.
7- صراع واضح بين “قوى وطنية” في المجتمع المدني بلا امتدادات خارجية تحاول إثبات وجودها في ظلّ الانتخابات المقبلة، إن تمّت، مع تيارات أخرى تمّ اختراقها بشكل واضح من سفارات غربية.
8- لعبة سياسية تجري محاولة لتمريرها يقودها الصهر جبران باسيل بضوء أصفر من حزب الله من أجل خلق وضع سياسي ودستوري يمنع إجراء الانتخابات النيابية في موعدها، الأمر الذي يكرّس استمرار الوضع الحالي لكلّ من القوى السياسية أو استمرار حكم الرئيس عون وأنصاره.
هذه الوصفة هي حكماً وبالضرورة وصفة مثالية للتفجير والصراعات والفشل التي قد تنتهي إلى فوضى تؤدّي إمّا إلى مجهول أو إلى فدرالية برعاية دولية.
لا يمكن للبنان أن يُحكَم بلا توافق. ولا يمكن للتوافق إلا أن يكون بمشاركة الجميع.
لا تقبل المشاركة وجود قوى متغلّبة بقوة سلاح غير شرعي ومستقوية بقوى خارجية تؤمن بدولة الوليّ الفقيه بديلاً لمشروع الدولة الوطنية المدنية العربية التي نصّت عليها بنود وروح دستور 1943 واتفاق الطائف وخطاب الإرشاد الرسولي الذي نتج عن اجتماع “السينودس السادس” للفاتيكان.
باختصار لن تنجح طهران كبديل للعرب، ولن تنجح أنقرة بديلاً للرياض، ولن تنجح قطاعات من الموارنة والشيعة في الاستيلاء على الوجود السنّيّ، ولن ينجح السُنّة سياسيّاً في زكن الإرتباك، ولن ينجح بهاء الحريري بديلاً “لشقيقه” سعد.