العميد الركن نزار عبد القادر -اللواء
بوعي كامل وموقف متماسك وثقة بصوابية القرار، واجه سعد الحريري تيّار المستقبل كقيادة وكجمهور، والطائفة السنية باعلانه عدم الترشح للانتخابات، داعياً في نفس الوقت «عائلته» في تيّار المستقبل إلى عدم التقدم بأية ترشيحات من التيار أو بأسمه، دون الأخذ بعين الاعتبار تأثيرات الصدمة التي سيتسبب بها قراره للشارع السني، وللحزن والارباك الذي سيتركه لدى الحلفاء، أو لأجواء الشك والغموض التي سيشعر بها الخصوم في المجتمع السياسي اللبناني في ظل غياب الحريرية السياسية التي شكلت إحدى الركائز السياسية الأساسية للتوازنات الوطنية خلال ثلاثة عقود متواصلة. قبل البحث في أسباب ونتائج هذا القرار الدراماتيكي والخطير على الطائفة السنية وعلى التوازنات السياسية اللبنانية، لا بدّ لنا من اجراء مراجعة سريعة للاستحقاقات الثقيلة التي فرض على سعد الحريري مواجهتها وتحمل تبعات نتائجها، كزعيم للطائفة السنية وكوريث للرئيس رفيق الحريري أو كرئيس للحكومة.
أولاً، كان على سعد الحريري كوريث لإرث والده السياسي إدارة نتائج «الزلزال» الذي تسبب به اغتيال رفيق الحريري على الصعيدين السياسي والشعبي، والذي تسبب بخروج القوات السورية من لبنان، بالإضافة إلى الانقسامات العامودية التي تسبب بها هذا الانسحاب، والتي قسمت البلد إلى معسكرين متضادين: معسكر حلفاء سوريا وإيران أو ما بات يعرف بمعسكر الممانعة والمقاومة، ومعسكر الاستقلال والسيادة بقيادة الحريرية السياسية.
ثانياً، اندلاع الحرب الثانية مع إسرائيل عام 2006 مع كل ما تسببت به من خسائر ومتغيرات عسكرية وسياسية، وخصوصاً بروز حزب الله كقوة عسكرية «منتصرة» في المواجهة مع إسرائيل وأميركا.
وبالفعل فقد شكّل انتصار حزب الله نقطة فارقة في موازين القوى الداخلية، خصوصاً إذا ما اخذنا بعين الاعتبار تطبيق القرار الدولي رقم 1701 وانكفاء حزب الله بكامل قوته نحو الداخل، والذي كان من الطبيعي ان تكون له انعكاسات كبرى على موازين القوى الداخلية، والتي ترجمت لاحقاً باحتلال وسط مدينة بيروت وباجتياح ميليشيات حزب الله لمدينة بيروت وجبل لبنان الجنوبي في 7 أيّار عام 2008.
ثالثاً، كان على سعد الحريري تحمل تبعات مقررات مؤتمر الدوحة وانعكاساتها السلبية على المعادلة السياسية التي أرساها اتفاق ودستور الطائف المنبثق عن الاتفاق، سواء لجهة تشكّل الحكومات بتقييد قرار رئيس الحكومة لجهة تشكيل الحكومة وتقاسمه كحصص، مع شروط الثنائي الشيعي التعجيزية والتي وصلت إلى مطلب وجود ثلث معطّل داخل الحكومة، والذي استعمل بشكل «مشين» لاعلان استقالة الحكومة الحريرية في وقت كان فيه سعد الحريري مجتمعاً مع الرئيس باراك أوباما في المكتب البيضاوي، وشكلت مقررات «الدوحة» شروطاً تعجيزية امام سعد الحريري في تشكيل حكومات منسجمة وفاعلة، حيث انتهت به إلى الاعتذار عن تشكيل حكومة اختصاصيين بعد تفجير مرفأ بيروت وفق بنود مبادرة الرئيس ماكرون.
رابعاً، تحمّل سعد الحريري الظلم والحزن والمخاطر التي رافقت مسلسل الاغتيالات الذي طاول قيادات المستقبل وقوى 14 آذار، وكان عليه تحمّل نتائج ما تسبب به من مخاطر على حياة العشرات من النواب ومن القيادات السياسية والأمنية. كما تحمّل كل التداعيات التي تسببت بها التحقيقات باغتيال والده، بالإضافة إلى كل تبعات المحاكمات التي جرت في لاهاي، والتي انتهت بإعلان عجزه الكامل عن الاقتصاص من قاتلي والده وآخرين رغم وجوده في رأس السلطة الاجرائية.
خامساً، استمر سعد الحريري في مقاومته لكل اشكال الضغوط والمؤامرات عاقداً العزم على تجنيب لبنان الوقوع ضحية فتنة سنية – شيعية، وعلي منع انهيار لبنان مالياً واقتصادياً مستغلاً من أجل ذلك جميع علاقاته العربية والدولية، وكانت المحاولة الأخيرة من خلال مؤتمر «سيدر» في باريس والذي وعد بتأمين ما يزيد على 11 مليار دولار من المشاريع والمساعدات والقروض، شرط القيام باصلاحات محددة تشمل قطاع الكهرباء، وتعيين بعض الهيئات الناظمة للكهرباء والاتصالات واجراء بعض الإصلاحات الإدارية لوقف الفساد والهدر. لم يستطع سعد الحريري كرئيس للحكومة من إقناع شركائه في مجلس الوزراء بتنفيذ أي بند من شروط مؤتمر «سيدر».
سادساً، شكّل العجز والاحباط الذي أصاب سعد الحريري في مسيرته السياسية، حافزاً للبحث عن «خيارات مستحيلة» من أجل تأمين استمرارية النظام من خلال الحفاظ على وجود المؤسسات الدستورية فكانت «التسوية الرئاسية» المشؤومة، بالنزول عند رغبة حزب الله بترشيح وانتخاب ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وكان ذلك نفطة البداية للانهيار الكبير سواء في الداخل، وفي علاقات لبنان العربية، وخصوصاً مع الدول الخليجية، وبالتالي التسليم بالهيمنة الإيرانية بعد استنفاد كل الوسائل المتاحة داخلياً وعربياً ودولياً. وهذا ما أدى إلى إعلان قرار الاستسلام والانسحاب دون النظر والتبصر بالتبعات والنتائج التي ستترتب عليه على الطائفة السنية وعلى الوطن.
رغم تقديري لكل الجهود التي بذلها سعد الحريري من خلال عمله السياسي وتحمله لمشقات رئاسة الحكومات في ظل هذا الزمن الرديء الذي عاشه اللبنانيون منذ عام 2005 إلى اليوم، إلا انني أرى بأنه لا يملك الحق لطلب تنحي تياره ونوابه عن الترشح باسم التيار، فالتيار ليس ملكاً شخصياً لسعد الحريري أو لآل الحريري بل هو حركة جماهيرية انطلقت من رفض اللبنانيين، وخصوصاً أبناء الطائفة السنية لسياسة التهميش التي واجهوها في زمن الوصاية السورية، ورفضاً للجريمة الظالمة بحق الشهيد الرئيس رفيق الحريري. هذا بالإضافة إلى ضرورة الاعتراف بأن تيّار المستقبل قد ولد من رحم حركة 14 آذار في ردّها الاعتراضي على هيمنة إيران وسوريا على لبنان. ومن الطبيعي الاعتراف بأن هذا الأمر يفرض على الحريري احترام رأي السنة وجماهير قوى 14 آذار في خياراته السياسية الكبرى، وخصوصاً إذا كانت بحجم تنحيه شخصياً مع تيّار المستقبل عن العمل السياسي، من هنا فإنني أرى بأن هذا القرار المفاجئ يمثل على حدّ ما رآه وليد جنبلاط بمثابة إطلاق يد الإيرانيين وحزب الله على لبنان، وبأن «الوطن بات يتيماً وبان المختارة باتت حزينة ووحيدة».
في تقييمي العام اعتقد بأن الحريري قد فكّر جدياً بتبعات هذا الرقار على لبنان وعلى الطائفة السنية، آخذاً بعين الاعتبار الدوافع الشخصية والمواقف العربية وخصوصاً الخليجية الرافضة لهيمنة حزب الله وإيران، وعجز المجتمع الدولي عن تنفيذ قراراته 1559 و1701 و1680 والتي تدعو جميعها إلى تحرير لبنان من سلاح حزب الله وإلى استعادة سيادة الدولة اللبنانية بواسطة قواتها الشرعية، وبمؤازرة القوات الدولية، واعتقد انه في نهاية هذه المراجعة لم يجد ان هناك فرصة لحدوث أي تغيير في أوضاع لبنان الراهنة، وبأنه مرشّح ليبقى رهينة العجز العربي والدولي على وضع حدّ للتدخل الإيراني على صعيد الإقليم. ولا يمكن بالتالي إيجاد حل منفرد لازمة لبنان مع حزب الله وإيران قبل إيجاد حل لفك أسر العراق وسوريا ووقف الحرب في اليمن.
كان الحريري محقاً وصريحاً في توصيفه للأسباب التي دفعته للتنحي والاستسلام حيث رأى انه «لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفة واهتراء الدولة»، وبالتالي لم تعد هناك أية فائدة من محاولات شراء الوقت، على غرار ما فعله في مرات عديدة سابقاً. ويرسم كل ذلك مرحلة غامضة امام لبنان، وستكون مفتوحة على احداث عنف داخلي، في ظل حصار عربي ودولي لحزب الله والنفوذ الإيراني. وان مكامن الخطر الفعلي تبقى في وجود جماعات متحفزة للعودة إلى خطوط تماس الحرب الأهلية على غرار ما حدث إبان احداث عين الرمانة – الطيونة مؤخراً.
اما عن التوقيت والأسباب الخفيّة لاعلان قرار الحريري الاستسلام لهيمنة حزب الله وإيران، فمن الممكن جداً ربطها بصورة مباشرة بزيارة وزير خارجية الكويت أحمد ناصر المحمد الصباح لبيروت ناقلاً إلى المسؤولين اللبنانيين رسائل عربية، واضحة حول ضرورة تنفيذ لبنان للقرارات الدولية، واستعادة الدولة لسيادتها وضبط الحدود الفالتة ومنع تهريب المخدرات والسلاح، ووقف تدخلات حزب الله في الدول العربية، وذلك ضمن لائحة مطالب تزيد على عشرة، وكلها تنتظر أجوبة صريحة من الدولة، تحضيراً لبحثها في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي سيجتمع في أواخر الشهر الجاري في الكويت. وهنا لا بدّ من القول بأن الحريري يدرك تماماً اقتصار الأجوبة اللبنانية على سرديات على غرار ما حصل في السابق، دون امتلاك القدرات أو الإرادة للوفاء بها.
في النهاية يبدو بأن الحريري يرى بوضوح بأن معظم القوى السياسية راغبة في التحالف معه اتخابياً في الوقت الذي ما زالت على مواقفها السياسية من الفساد واستباحة الدولة ومالها وسيادتها، وبما يفتح الباب لاتهامه من قبل الناس بنسج تحالفات على حساب عملية الانقاذ.
من المؤكد ان تنحي الحريري سيترك خللاً في موازين القوى الوطنية، كما سيترك حالة إحباط في المجتمع السني، وانه على نادي الحكومات السابقين وبعض سياسيي تيّار المستقبل تلقف كرة النار، وإذا فشلوا فإن دور وتماسك السنة سيكون عُرضة للتشرذم والاستغلال من قبل حزب الله وحلفائه.
العميد الركن نزار عبدالقادر
الوسوم
استسلام الحريري
01203766656584
119 5 دقائق